التدمير الإسرائيلي والمجتمعات المتصدّعة على عتبة الانتخابات الأمريكية

وسام سعادة
حجم الخط
0

عشرة أيّام تفصل بين تنفيذ إسرائيل غاراتها «المتوقعة» على المواقع الإيرانية وبين توجّه الناخبين الأمريكيين إلى صناديق الاقتراع. يأتي هذا التطوّر الحربيّ «محسوباً» بدقّة أكثر مما هو استهدافياً لأهداف دقيقة. وباب الدقّة فيه أنّه يدفع بالكرّة إلى الملعب الإيرانيّ. هل تردّ الجمهوريّة الإسلاميّة أو لا تردّ، مؤثرة «عدم الاعتراف» بالهجوم الإسرائيلي كحدث نوعيّ يلزمها الاكتراث به؟ وفي الحالتين، الردّ الإيرانيّ على الردّ على الردّ الإسرائيلي، يرتبطان بالاستحقاق الانتخابي الأمريكي الداهم، وخاصة بالكيفية التي ستتعامل فيها طهران مع احتمال رجعة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وبالمطلق، يرمز ترامب إلى خيار «تبريد» على الجبهة الأوكرانية، و«تسخين» مع النظام الثيوقراطيّ الإيرانيّ، فضلاً عن مزيد من تأزيم الأوضاع مع بكين.
الهجوم الإسرائيلي على إيران يبدو اختار مرتبة «وسطى» بين كل ما جرى تناوله بالتقدير والتخمين والتسريب في الأسبوعين الماضيين من توجّهات للقيادة السياسية والمؤسسة العسكرية – الأمنية في إسرائيل. فهو ليس من النوع «الاستراتيجي» الملزم حكماً لإيران بالردّ عليه. وليس من النوع «التوضيبي» للمراسلات الحربية بين القوتين الشرق أوسطيتين. اختارت إسرائيل التجاوب مع نصائح إدارة الرئيس جو بايدن لها، بأنْ تقتصد في هجومها على إيران، في مقابل تسويغ واشنطن لهذا الهجوم بأنه يندرج ضمن حق الدفاع عن النفس، وبالتالي بما يلغي مسبقاً، من زاوية النظر الأمريكية، حق إيران في الردّ عليه. يبقى أن هذا الهجوم، رغم كل «الديزاين» المتعلّق بتشذيبه، هو الأخطر في تاريخ الاحتكاك المباشر بين إسرائيل وبين الجمهورية الإسلامية وعلى أرض الأخيرة، ويتكثف خلاله، إن في الاعتبار العملاني الهجومي البحت، أو في الاعتبار الرمزي، من خلال ضرب منشآت لها علاقة بالصواريخ الباليستية والمسيّرات، بالعمل على توهين العلاقة بين النظام الخمينوي وبين الفصائل الموالية أو المتحالفة معه في المنطقة العربية.
باستثناء الإشكال في قطاع غزة بينها وبين إدارة بايدن، تعمل إسرائيل على الالتزام بالمحدّدات الأمريكية عندما يتعلّق الأمر بمواجهة «حزب الله» والحرس الثوري الإيراني في لبنان أو ضمن الأراضي السورية، كما في مواجهة الحرس الثوري على الأرض الإيرانية نفسها. في الوقت نفسه، يأتي هذا الهجوم «محايداً» في اللعبة الداخلية الأمريكية بين الديمقراطيين وبين الجمهوريين، لا يساهم في إعطاء أي هدية جيوبوليتيكية لهذا المرشح أو ذاك. ليس لأن المرشحين يتماثلان تماماً حيال الوضع في الشرق الأوسط، فترامب هو الرئيس الأمريكي الذي نقل السفارة إلى القدس وأقرّ لإسرائيل بسيادتها على الجولان، في خرق شنيع للقانون الدولي والقرارات الأممية 242 و338 و497 والعرّاب للتسوية «الإبراهيمية» على قاعدة «السلام مقابل اللا – أرض». لكنه في الوقت نفسه ترامب الذي يطرح نفسه الآن كصاحب نيّة تسوية مع فلاديمير بوتين حول أوكرانيا. إذا كان من شأن هذه التسوية جعل الدواعي الى التقاطع الروسي الصيني الإيراني أقلّ الحاحاً، وجعل واشنطن أكثر قدرة على الضغط على إيران، فإن إسرائيل لا تنظر في المقابل إلى وقف الحرب على الجبهة الأوكرانية كشيء إيجابي لها، بل كتخفف أمريكي من التورّط في «العالم القديم» أو «الجزيرة – العالم» بالمصطلح الجيو-بوليتيكي («المسكونة» قبل «اكتشاف» الإيبيريين لأمريكا) وليست مصلحتها في الإقليم أن تخفّض أمريكا مستوى انخراطها. النزعة «الانعزالية» في السياسة الدولية، التي يرمز لها دونالد ترامب، تقلق إسرائيل. الأخيرة تدرك تماماً أن أسلوب الإدارة في التعامل مع مشكلات الشرق الأوسط والعالم لن يكون هو نفسه بين الديمقراطيين والجمهوريين، لكنها تبدو أكثر «تأقلماً» مع الاستعداد للتعامل مع هذا الطاقم أو ذاك. الهجوم الإسرائيلي على إيران يأتي في المقابل في لحظة انتخابية يمكن أن تضطر فيها إيران للرد – أو لعدم الرد – عند أو في أعقاب توجه الناخبين الأمريكيين للاقتراع. الشيء الأوضح نسبياً في هذه المعمعة أن ردّاً إيرانياً على الهجوم الإسرائيلي سيقود إلى اشتداد وتسارع المراسلات الحربية بينهما.

المكابرة المعرفية

يأتي هذا التطوّر الحربيّ ضد إيران في وقت لا يبدو فيه من مخرج من الحرب سواء في غزة أو في لبنان، ناهيك عن مآل الأوضاع في اليمن، بما في ذلك ما بوجود أساس قوي لعودة الصراع، بجانبيه الأهلي والتدخلي، على أرض اليمن نفسه. تماماً مثلما أن الضغط التدميري الكبير على «حزب الله» والباسدران في لبنان وفي سوريا لا يمكن أن لا ينعكس على مآل الأوضاع في سوريا نفسها، هذا في وقت يحاول فيه نظام آل الأسد الاستثمار في وضعية الالتباس على أساس من حيثيات هشة، بل عابرة.
الحرب على «حزب الله» والتي تتخذ في منحى منها طابع تطهير اثني ضد الجنوبيين، وضد شيعة لبنان، تندرج ضمن كل هذه السياقات. ويبدو في عجلة من أمرهما خطابين حياتها، الخطاب المكابر على ما استطاعت إسرائيل تكبيده للحزب وللبنان ككل في الشهر الماضي، والمكابر على الفجوة بين قوة تدغم تماماً بين الحرب الافتراضية وبين الحرب الواقعية، وبين قوة تكتفي بالحرب الواقعية. نعني بالمستوى الافتراضي من الحرب كل ما تعلّق بالداتا المستجمعة والمفروزة انطلاقاً من تضافر علوم وتكنولوجيات من مشارب عدة. الحرب الإسرائيلية تعرّج بشكل كامل على هذا الجانب، الحرب الافتراضية، وتجسّد الحرب الافتراضية بشكل كامل في الحرب الواقعية، انطلاقاً من قدرة على التدمير، ومن نهم إليه، ومن إجازة دولية له، هائلة. ليست المكابرة مقتصرة فقط على عدم لحظ المسافة بين عتاد وبين آخر. المسألة ليست تكنولوجية بالمعنى المحدود، بل بالمعنى المعرفي – الذهني الشامل. ثمة فجوة «ابستمولوجية» بين المتحاربين هنا. والمكابرة عليها هي إذاً مكابرة ابستمولوجية. تزيّن هذه المكابرة لنفسها أن اللا-دنيوية، والتشوق للآخرة، هو معطى في غير مصلحة إسرائيل. وفي هذا «علمنة» لإسرائيل أكثر ما يجيزه واقع الحال. ليست إسرائيل بكيان ثيوقراطي، لكنها لا تعدم مسحة ثيوقراطية هي الأخرى، مشروعها مرتبط بنمط معين من تحديث وعصرنة الاسكاتولوجيا، وليس بالاستغناء عن الأخيرة أبداً. الصراع في جانب منه هو بين منظارين إقحاميين للاسكاتولوجيا على نحو مباشر، وحربي، ومستدام، بأمور الدنيا.

إسرائيل قوة تدمير
لا قوة إعادة هندسة

المكابرة المعرفية يوازيها في المقابل درك آخر، وهو الخطاب غير القادر على ادراك أن إسرائيل ليس عندها أي امكانية ولا أي شهوة لتركيب واقع مستقرّ جديد لا في غزة، ولا في الضفة، ولا في لبنان أو سوريا. قدرتها على الايذاء، على التدمير، لا تقترن عندها بقدرة على الهندسة الكولونيالية لهذه المناطق، أبعد ما يكون عن البطش وسفك الدماء وتدمير العمران. غير قادرة على ممارسة دور المتغلّب القادر على جرّ المغلوب الى سردية يحيكها هو، غير قادرة على العودة حتى إلى ما كانت عليه الحال قبل هجمات 7 أكتوبر. ولأجل ذلك، فالتحدي الآن هو من يتحمل أكثر التمادي في هذه المواجهات المتقاطعة، اللامتناسبة أبداً، والذي يزيد فيها الممانعون مكابرة، وتكشف مكابراتهم فيها عن انفصال ذهني – معرفي حقيقي عن الواقع، لأنهم غير قادرين بعد على ادراك دور المستوى الافتراضي في نمذجة هذا الواقع. فيما يزيد الشطط في المكان الآخر، عند المتوهمين بأن إسرائيل يمكن أن تفرض هندسة للمنطقة، أو لأي بقعة لا تحتلها فيها وتستوطنها وتجلي سكانها بالشكل المباشر، وأن يكون ذلك مجلباً لاستقرار طويل. إمكان العقل النقدي في هذه المنطقة مشروط بأخذ مسافة مزدوجة عن المكابرين من ناحية، والمستعجلين لإعادة هندسة شاملة ومستحيلة للمنطقة من ناحية ثانية. في الحالتين، هناك عدم استعداد لاستيعاب مسارات قرنين ونيف من «المسألة الشرقية» في هذه المنطقة. والمسألة الشرقية تدوم الآن لقرن جديد. أما الحرب، وكم تدوم؟ فأي حرب. إسرائيل لم تعلن حتى أنها دخلت في حرب جديدة على لبنان! على غرار ما كانت تفعله في المواجهات السابقة. تتحدث عن الوضع في الشمال، عن سعيها لاعادة الإسرائيليين الى شمال الجليل، لا تلزم نفسها بأي شيء محدد غير ذلك. لا تقول أنها لم تعد تقبل بالقرار 1701 ولا تقول عكس ذلك، لكنها عملياً تعمل على تقويض بنية «حزب الله» من ناحية، وعلى تقويض امكانية الحفاظ على تركيبة لبنانية موحدة من ناحية ثانية، وهنا أيضاً ثمة من يرى هذا الأمر دون ذاك، ويُعكس.
يدفع هذا باتجاه إعادة طرح السؤال حول العلاقة بين المواجهة مع إسرائيل وبين تصدع مجتمعات المواجهة. هل الحرب في الإقليم تؤجل الاحترابات الأهلية أو تُعجّل بعودتها؟ التروي في الخوض بهذه المعضلة ضروري الآن. في الوقت نفسه لا مناص من التشديد على أنه كلما جرى الاقتناع والاعتراف بأن مصالح الجماعات المختلفة في مجتمع متعدد إثنيا أو طائفيا ليست من تلقائها متصالحة، وليست محكومة أيضاً بالتضاد الجوهري والأبدي، كلما كان ذلك أفضل. مثلما أن الحروب الأهلية لم يعد من المفيد أن تقارب بمنظار «الفتنة ودرء الفتنة». الحرب الأهلية كمفهوم حديث، حتى في المجتمعات التي يتفاوت فيها عمق وتوازن الأخذ بأسباب ومظاهر التحديث، ترتبط بتمثلات مختلفة للمساحة وللديموغرافيا، بشكل لا يغطيه مفهوم «الفتنة» ما قبل الحديث.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية