يأخذنا التأمل في سمات وقسمات التدين الياباني، ومحاولة الاقتراب من أسرار التجربة الدينية عند أهل الجزر الإلهية، إلى نموذج فريد في المزج بين الغيب والشهادة، والمواءمة بين العمل والعبادة.
ومنذ فترة شهد العالم كله بعضا من عجائب التقاليد القديمة عند هذا الشعب، الذي يعيش وحده في أقصى الأرض، فعندما أشرقت أول شمس على البسيطة في الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي كانت الخلائق والأفلاك على موعد مع مراسم تنصيب الإمبراطور الياباني السادس والعشرين بعد المئة، في أقدم وأطول امبرطورية في تاريخ البشر.
وفي حفل أسطوري أنفقت عليه اليابان 2.7 مليار ين، ظهر الإمبراطور ناروهيتو للبشر في زي تقليدي ساحر، وارتقى عرشا يبلغ طوله 6.5 أمتار ووزنه 8 أطنان، وخاطب من فوقه زعماء 180 بلدا، مهنئا الأمة والعالم كله بنفسه، واعدا بأنه سيعمل على إحلال السلام بين الخلائق، ثم ترجل لا ليصافح، بل ليأخذ سنة من النوم في مخدع أماتيراسو، أي الشمس معبودة الآلهة.
أثير جدل عن هذا البذخ، وللمرة الثانية في مناسبة تنصيب الإمبراطور يتحدث اليابانيون بمفردات الحداثة بنوع من الشك، عن جواز هذا الهجوم الشرس على المال العام، والإشكال السياسي في أن يقدم رئيس الوزراء المنتخب شينزو آبي مراسم الخضوع للإمبراطور، وما يطرحه ذلك من جدل حول سيادة الشعب، وتعارض ذلك مع مقام الإمبراطور عند من لا يعرفون كثيرا عن دين اليابانيين، ولكن الغلبة كانت لتقاليد ديجوساي، التي ترسخت في اليابان منذ القرن السابع الميلادي، وتقوم على تأكيد ألوهية الإمبراطور في حفل تنصيبه، لا لألوهيته وحسب، بل لعلو شرفه بين الآلهة. فأي ديانة هذه التي يعتنقها شعب يقود مسار الحداثة في مجالها التكنولوجي، ومع ذلك يسجد ويمرغ أنفه لشخص، ويفتح خزائنه لتقاليد ترسيمه على هذا النحو؟
يبلغ عدد سكان اليابان 127 مليونا، يدين 120 مليونا منهم بالشنتوية، وهي ديانة طبيعية تقوم على تقديس المشاهدات والظواهر، وتصور حلول روح (الكامي) في الشمس والسماء وجبل فوجي وحبة الأرز والأسلاف والميكادو، أي الإمبراطور.
يرى دارسو الأديان أن كل فكر حتى يسمى دينا، لا بد أن يشتمل على ثلاثة عناصر تسمى في الاصطلاح الأكاديمي «بنية الحد الأدنى للتصور الديني» وهذه العناصر هي المعتقد والطقس والسردية التاريخية، لكن العنصر الثالث أي قصة نشأة الكون وسيرورته التاريخية، ومآله هو أهم ما يظهر في الأدب الديني الياباني، إذ تسيطر الأسطورة الغارقة في الخرافة واللامعقول على الفكر الديني عند اليابانيين، ولا تبالي حتى في زماننا بمادية الحداثة، وإن أتت الأمة اليابانية بالمعجزات، بدورها الواضح في صناعة الحدث الصناعي والتكنولوجي اليومي.
إإذا كانت السردية اليابانية على هذا النحو تبدو هي الأكثر تهافتا وغرقا في الميثولوجيا والخرافة، فإنها بقيت ـ وياللعجب ـ مسيطرة على عقلية تصنع الإنجاز الصناعي والتكنولوجي كل يوم.
«كوجيكي» أي وقائع الأشياء القديمة، أحد الكتابين المقدسين في عقيدة الشنتو اليابانية، يبدأ بعبارة رنانة «في البدء كانت الآلهة» ليحكي السردية التاريخية لنشأة الكون ومساره في قصص عجيبة تختلط فيها الآلهة بالبشر، بما يرسخ أفكار التخلل والحلول، والترابط المتبادل، والأثر الذي يسري بين الكائنات المقدسة والعادية عن طريق الاستنارة الممكنة لكل حي، بنوع من المعالجات والرياضات الذهنية.
الكتاب مليء بالحديث عن الأمور الخارقة، وفيه حشد من الجمل الخطابية التي لا تقوم على مقدمات منطقية، ولكن قراءته نافعة جدا في تفسير كثير من مفردات الهوية اليابانية. فقرص الشمس على العلم الياباني تعظيم للإلهة أماتيـــــراسو رائعــــة الجمال، التي أنجبها تزاوج الإلهين إيزاناجي وإيزانامي بعد إنجابهما 4224 ابنا هما مجموع الجزر اليابانية.
الجزر اليابانية إذن جزر إلهية، وأماتيراسو هي الشمس وربة الجمال، التي أراد لها أبواها أن تكون سيدة الكون، ولهذا أرسلاها إلى السماء لترسل من الأعلى أشعتها الذهبية، كي تنير الأرض، ثم أرسلا نسوكي يومي إله القمر على قوس قزح، فلما اختلف أماتيراسو مع نسوكي يومي، قضى أبواهما بقسمة الإطار الحركي للكون بينهما، فجعل للشمس مملكة النهار وللقمر مملكة الليل.
ومن مفردات الهوية اليابانية الإمبراطور الميكادو، ويحكي «كوجيكي» القصة التي تفسر تقديس اليابانيين لامبراطورهم منذ ولادة التاريخ، حتى كتابة هذه السطور، فإن الشمس قد انتصرت على القمر، ولكنها غضبت لأن الآلهة لم يؤيدوها في صراعها مع رب العواصف سوزانو، فاختفت عن الظهور وشقي الكون بالعيش في الظلام لعصور، ثم عادت أماتيراسو إلى عرشها لتصبح اليابان بلاد الشمس المشرقة. وسأوضح لاحقا أسرارا أخرى عن تقديس الشمس والميكادو.
أخذت شمس اليابان زمام الحكم، وأصبحت هي التي تسير الكون، فاشتكت لها الآلهة صراخ سكان الأرض بسبب الطنين المنبعث من الجبال والصخور والأشجار، لأنها تلبسُها روح تغلب عليها الثرثرة، فيؤرق الآلهة أيضا حديثها المتصل، فتتقدم الشمس لمعالجة الأمر، وترسل حفيدها نينيجي ليحكم هذا العالم المضطرب بعدما قربته ومنحته بركتها وأعطته هدايا لأهل الأرض، وفيها تزوج الحسناء كونوهانا ابنة ملك الجبل، التي كانت أصغر من اختها الدميمة.
وكما تحكي التوراة زواج يعقوب من ليئة الكبرى، كي يمهد للزواج من راحيل الجميلة، تزوج نينيجي من الاختين، ولكن بسبب غيرة الزوج المجنونة دخلت الحسناء كونوهانا في سجن اختياري في كوخ، وأشعلت النار في نفسها، ومن ألسنة اللهب خرج ثلاثة أبناء، منهم هوري، الذي خرجت منها سلالة مقدسة من الميكادو، لا تزال حتى الآن متصلة في أطول إمبراطورية عمّرت على وجه الأرض، تتوارث فيها كرسي العرش المقدس عائلة واحدة، يعتقد اليابانيون أنها تنتمي إلى نخبة الآلهة وترجع إلى الأم العظيمة الجميلة أماتيراسو أي ربة الشمس.
وإذا كانت الأديان تشتمل دائما على سردية كونية، تفسر وجودنا على هذا الكوكب ووقائع العلاقة بينه وبين الكواكب الأخرى، وإذا كانت السردية اليابانية على هذا النحو تبدو هي الأكثر تهافتا وغرقا في الميثولوجيا والخرافة، فإنها بقيت ـ وياللعجب ـ مسيطرة على عقلية تصنع الإنجاز الصناعي والتكنولوجي كل يوم، وهي مع ذلك تفسر خصائص الأمة اليابانية في تدينها، وحسها القومي ونظرتها للآخر. وسنعيش أكثر مع مزيد من عجائب هذا الشعب وديانته وسر تألقه وسحر قصصه.
٭ شاعر من سوريا
شكراً للكاتب على هذه المعلومات, وبإنتظار الجزء الثاني!
والسؤال:
الشعب الياباني عملي في حياته, لماذا يصدق هذه الخزعبلات؟
أم لعلها القومية أو الوطنية؟ ولا حول ولا قوة الا بالله
اعتقد أننى اعرف اليابان إلى حد كبير، وذلك من واقع تجرتبتي من زيارات متعددة لليابان بداية من عام 1979 إلى 2007 والتي تخلل احدها فترة إقامة دائمة هناك لثلاث اعوام في منتصف التسعينات من القرن الماضي. لقد تابعت بعين فاحصة ومن علاقاتي المتعددة كل ما يجري في اليابان إلى حد كبير، وعلى ضوء ذلك، قمت بتوثيق هذه التجربية الغنية بنشر كتاب صدر عام 2015 بعنوان: “عربي في اليابان: شاهدت.. سمعت.. قرأت..”، حيث يحتوى الكتاب على العديد الصور التي لها علاقة بهذه التجربة من كل زواياها المختلفة. أود ان أشير إلى نقطة بخصوص المقال اعلاه، بأن الياباني في شبابه “شينتو” ولكن عند تقدمه في السن، يكون “بوذي”، كما انه يقوم بتسجيل اسمه في دوائر الاحوال المدنية في مختلف مقاطعات اليابان بما يتناسب مع مصلحته.
ان الاحتفالات بمرور الزمن لا تعني ايمان الشعب بها دينيا وانما هي تقليد يتبعه الشعب وهذا ما يحدث حاليا في اوربا من احتفالات لا يؤمن بها الشعب وحتى البعض لا يعرف لماذا يقوم بها وهي من المسيحية اساسا واما الشمس والقمر فهي اصل كل الديانات القديمة منذ نشاتها وحتى السماوية لو دققنا بنصوصها جيدا فالله في الاسلام نور السماوات والارض والمسيح يقول انا نور العالم
مقال رائع انتضر الجزء الثاني
لقد طرح المؤرخ والإجتمعيائي المغربي السؤال المؤلم لكل مسلم- لماذا لم يتقدم المسلمون ويحققون الثورة الصناعية قبل الغرب الاستعماري وهم كانوا قاب قوسين من تلك الطفرة لما يتميز به الدين الإسلامي من عقلانية وعلمانية لا نظير له بين كل أديان الأرض؟؟؟.
والجواب أن العالم الإسلامي وان فاتته الثورة الصناعية لأسباب سياسية داخلية حسب رأيي المتواضع في زمنها ،فإن المعيق الوحيد الأن هو الغرب الإستعماري الذي يسمح حتى لعبدة البقر والقردة والفئران بالتقدم ولا يسمح للمسلمين وهم كمن يقبض شخصا من خلفه يمنعه من التقدم الى الأمام بأيادي زرعوها في كل ارجاء الوطن الإسلامي وكلنا يعرفها؟؟؟
هناك قصيدة لحافظ إبراهيم بعنوان (غادة اليابان) أنصحكم بقرائتها كاملة و لكن لفت نظري فيها بعض الأبيات التي تمثل أحوالنا اليوم:
أنا لولا أنّ لي من أُمَتي،خاذلاً ما بتُّ أشكو النُّوَبا.
أمة قد فتَّ في ساعدها،بغضُها الأهلَ وحبُّ الغربا.
تعشق الألقابَ في غير العلا،وتُفدِّي بالنفوس الرُّتَبا.
وَهْيَ والأحداثُ تَستهدفها،تعشق اللَّهوَ وتهوى الطربا.
لا تُبالي لعب القومُ بها،أم بها صَرفُ الليالي لعبا.