التدين الياباني«3»: كوجيكي… الكتاب المقدس الياباني

كوجيكي أو حكاية الوقائع القديمة هو الكتاب الأكثر قداسة عند اليابانيين، يتبركون به، ويتلون ما تيسر منه في المناسبات الخاصة والعامة والأعياد، ويحتفظون في بيوتهم بالنسخة العتيقة منه المكتوبة باللغة الصينية القديمة، التي لا يفهمونها، ومعها ترجمتها إلى اليابانية الحديثة، وبعض التفاسير التي تشرح لفظا غامضا، أو تشير إلى مرمى بعيد لقصة غير مكتملة.
الكتاب مليء بالقصص الأسطورية الغامضة، إذ يثمن الإيمان الشنتوي معنى الغموض ويعليه في الشعور الديني، ويعول عليه في تغذية الحوار مع القداسة، وفيه تتحول الأفلاك والكائنات إلى أشخاص تتألق روحها «الكامي»، فتتكلم وتشعر وتخطط وتتحرك وتتزاوج، فتدخل الشمس والقمر والرياح والجبال والبحار في تنافس شديد، هدفه دائما تحقيق أكبر عدد من المكاسب للأمة اليابانية، حيث يصور الكتاب كل شيء ياباني، على أنه إله من نسل آلهة، بل إن غاية مجتمع الآلهة في كوجيكي هو إرضاء الجزر وتحقيق النصر لها.
فهل يعيش كوجيكي في المجتمع الياباني؟ وهل يظهر في مفردات أهل الجزر الآلهية اللغوية وآدابهم العامة؟ وهل ينظر إليه دائما باعتــباره كتابا مقدسا يمتلئ حقا لا باطل فيه؟
الكتاب الياباني مكون من ثلاثة أجزاء، يحكي الأول منها قصة نشأة الكون، ويعني هنا نشأة الجزر اليابانية، على اعتبار أنها هي التي تستحق الذكر من بين ربوع البسيطة، باعتبارها جزرا إلهية، نتجت عن زواج عجيب بين الإلهين إيزناكي وإيزانامي. وتبدأ القصة بانفصال السماء عن الأرض، وتستمر حتى انتهاء معركة الشمس وأنصارها على الجزر اليابانية، من أجل تنصيب حفيدها أول سلالة الميكادو، وهي الأسرة التي تحكم اليابان حتى زماننا هذا. ويبدأ الجزء الثاني بتفاصيل أخبار حملة الشمس العسكرية، في الجزر اليابانية، وتستمر حتى وفاة الإمبراطور الخامس عشر لوجين. وفي الجزء الثالث طائفة من أخبار الأباطرة العظام تنتهي بذكر الإمبراطورة سئيكو.
والقصص في الكتاب غير مكتملة، وتفيض بالغموض، وتشتمل على بعض المعاني التربوية، وعلى أبيات شعرية غالبا تمجد اليابان، ولذلك تقتبس هذه الأبيات في بعض المناسبات، مثل أنشودة الأنخاب التي تتلى عند شرب الشاي المقدس، وهي أبيات مقتبسة من حكاية وقعت بين الإمبراطور يورياك وخادمته، حين قدمت له الشاي من فوق رأسها احتراما، ولكن وقعت ورقة من شجرة الدردار الكبيرة في الكأس، بدون أن تنتبه الخادمة، فوضع الإمبراطور السيف على عنقها، فأنشدت أبياتا أعجبت الإمبراطور، فاتخذت طقسا للأنخاب.
ربما تجد بعض القصص غير ذات مغزى في الظاهر، كقصة الإمبراطور يورياك إذ رأى فتاة تغسل الثياب، فوجدها رائعة الجمال، فأشار إليها بألا تتزوج لأنه سيستدعيها، ولكنها تنتظر أعواما مديدة حتى تكبر وتشيخ، ولم تشأ أن تذكر الإمبراطور بوعده حتى بلغت الثمانين، فذهبت إلى قصره لتذكره، وتخبره بأعوام انتظارها وهي يائسة، لأنها من أجله أضاعت عمرها بدون أن تستجيب مرة واحدة لنداء جسدها، وعندما يراها وقد ضعفت ووهن عظمها، وانكسرت عيناها يأسف لها، ولا يعتذر لأنه نسيها، بل يهديها بعض أبيات الشعر.
ومن صور التعقيد في القصص كثرة الأسماء مع طول الاسم وذكره كاملا كل مرة مصحوبا بعبارات التكريم والتمجيد، مع غموض المسمى، لأن الكتاب يشخص كل شيء ياباني، فقد تجد عبارات العظمة موجهة لحبة أرز، أو صخرة في جبل، ولا يعني هذا إطلاق لفظ أرز على شخص، بل المقصود تشخيص حبة الأرز، وتخيل روح الإله فيها ثم تمجيدها فقط لأنها يابانية.


ولهذا فإن الكوجيكي يصعب قراءته، وفهم مغزى قصصه وأشعاره قبل فهم المجتمع الياباني، ونمط تدينه ونظرته إلى وطنه وأرضه، فالقصص هذه بما فيها من تفاصيل وأشعار، إنما يسكب البلاغة فيها شعور الياباني العميق بعظمة أمته وإلهية الجزر التي يعيش عليها، ويقينه بأن الأسرة التي تحكمه تنتمي إلى نخبة الآلهة أماتيراسو أي الشمس.
لهذا يعيش الياباني مع كوجيكي حالة تألق روحي، مختلطة بحب الوطن مع ملاحظة ذوبان الفارق بين الوطني والديني، في إيمان قومي قائم على يقين بجلال الأرض وإلهيتها، ومجد الوطن وعظمته، كوجيكي يبدو مكرسا لتأكيد الأصل السماوي للجزر اليابانية، ولهذا يستلهمه الشعراء اليابانيون، ويقولون عنه إنه الحليب الذي يشربونه من المهد إلى اللحد، وتختبئ الأمة اليابانية كلها في كوجيكي وتفزع إليه حين تشعر بخطر على الشعور القومي، وتعده درعها الحامي في وجه الديانات الأخرى وموجات الحداثة.
وتشير أهم حادثتين في تاريخ اليابانيين المحكي مع كوجيكي إلى مكانة هذا الكتاب ومركزيته، ودوره في الحفاظ على الشعور القومي لهذه الأمة، مع التأكيد على أن الشعور باليابان هو جوهر الديانة الشنتوية.فعندما زحفت البوذية على الجزر الإلهية وأعجب الشعب الإلهي بالنموذج الصيني، الذي كان أرقى وأسبق من تلك القبائل اليابانية المتوحشة، التي لم تهذبها التعاليم الكونفوشيوسية، ولا أي تعاليم، انتشرت معابد البوذية في كل مكان، صحيح أن البوذية الصينية والهندية قد أعيدت صياغتها في الجزر لتناسب الوثنية الشنتوية، ولكن الأمة اليابانية فزعت إلى حكايات كوجيكي لإحياء التقاليد الشنتوية القديمة بكل تفاصيلها، كي تقاوم هذا الوافد الجديد، وأصدر الإمبراطور كينمي أمرا بتدوين كوجيكي لأول مرة بعدما كان مجرد حكايات شفهية تتردد بين شعب لا يعرف الكتابة، وقام بذلك أو نو باسومارو بعدما تعلم اليابانيون الكتابة والقراءة من الصينيين.
وعندما زحفت الثقافات الغربية ومعها بعثاتها التبشيرية على اليابان، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، قاد الإمبراطور ميجي حين اعتلى عام 1867 مشروع تحديث يابانيا، كان عماده كوجيكي، فتقرر إضافته إلى المناهج الدراسية، وكان الهدف مرة أخرى أن تخرج اليابان من فقرها وتخلفها، بدون أن تفقد روحها الكامنة في مفردات وجمل وقصص وأشعار كوجيكي.
ويبدو أن مشروع ميجي قد نجح، ودخلت اليابان الحداثة من غير أن تفقد هويتها بفضل كتابها، نعم لم يعد كوجيكي يدرس في المناهج التعليمية، ولكن حكاياته بقيت ذات تأثير في الشعر والقصة، وسائر أجناس الأدب الياباني، وما زالت تستلهمه الدراما التلفزيونية، والأفلام السينمائية والمسرحيات، والرسوم وقصص الأمهات لأطفالهن قبل النوم.

٭ كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعادة فلسطين الصين:

    بعد التحية ،
    بعد وفوق وتحت كل هذا ، الكاتب لم يناقش السؤال والتساؤل الأهم والأكثر دلالة : ما اثر هذا الإرث الثقافي القديم المتأصل عند اليابانيين في تشكيل الهيكلية التي تحتكم وتبنى وتستند عليها العلاقات الاجتماعية بين الناس الآن، هذا هو السؤال الأساسي . بعبارة اخرى وفي سياق التساؤل إياه ، ماذا لو قمنا بعمل بمقارنة مثلا بين المجتمع الياباني والمجتمع الألماني اوالبريطاني وما الفروق الأساسية بينهما بما يتعلق بتساؤلات وتحديات وآمال وتوقعات والأهم معنى الازمنة الحديثة. او بطريقة اخرى وعملياً ، لماذا كان الرد الألماني مثلا على الأزمة السورية كرماً أخاذاً بالسماح لحوالي مليون سوري بالدخول واللجوء الى ألمانيا ، في حبن عندما سؤل حينها رئيس الوزراء الياباني لماذا لا تقوم اليابان بفعل شيء ما مشابه أخذا بالاعتبار حاجة الاقتصاد الياباني لعمالة جديدة وشابة، كان رده ان الحكومة اليابانية ستسد الحاجة للعمالة برفع سن التقاعد!!! ‏أعتقد جازما أن الفرق بين النموذجيين موجود في الإرث والثقافة اللتان تركهما في الكتاب المقدس كوجيكي !! وهذا عملياً – كغير يابانيين – في الواقع ما يهمنا ..

    1. يقول احمد الجزائري:

      حقا تساؤلاتك تستحق التنويه و الـتأمل للكشف اكثر عن المخيال الاجتماعي و تصوراته الاسطورية باسقاطها على الواقع الياباني المعاصر ,,للكشف عن الهوة بين ياباني الامس و ياباني اليوم ,,ولو ان تصريح الرئيس الياباني تعكس عن قومية راسخة تغذت حد التخمة من صفحات كتاب الكوجيكي

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    شكراً للكاتب على تعريفنا بديانة اليابانيين الغريبة!
    أستغرب هذه الخزعبلات ببلد يعتبر العلم هو الأساس!! ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية