كثيرا ما نتحدث عن التراث بالمعنى الثقافي التاريخي العام. وظل هذا موضوع الدراسات الفكرية والأدبية العامة. ثم صار الحديث عن التراث المادي، الذي انشغل به السياسيون ورجالات الاجتماع والمعمار والصناعة. ومع شيوع مفهوم التراث اللامادي الذي يهتم به الباحثون في الدراسات الشعبية والأنثروبولوجيا وغيرهما، صار التمييز واضحا بين التراث بنوعيه المادي واللامادي. ورغم ما يربط بينهما نجد لكل منهما مجالاته وإجراءاته. غير أننا قلما نهتم بالتراث الطبيعي، رغم أنه لا يختلف من حيث الجوهر عن الأصناف الأخرى.
فإذا كان التراث الثلاثي الأبعاد نتاج الفعل الإنساني، نجد الطبيعي يتصل بصورة كبرى بما وجده الإنسان بين يديه، ولم يكن له إلا في ما ندر(غرس شجرة مثلا) أي أثر. إن أنواع النباتات والحيوانات والمواقع والمغارات والفضاءات والأنهار، وغيرها لا دخل للإنسان فيها، ولا في صناعتها. إنها تؤثث معه الفضاء الحيوي الذي يشتركان فيه. وفي نطاق علاقته بها إما أنه يعرضها للدمار، أو يحافظ عليها فتظل جزءا من عالمه. لكن القاعدة العامة، والسائدة عالميا هي ممارسة الدمار حيال التراث الطبيعي الإنساني. ألم ينظر إلى أن الثقافة تسعى إلى التغلب على الطبيعة؟ بل أحيانا يُتعامل معها على أنها نقيضها. وإذا كان التغلب على الطبيعة، واعتبار الثقافة نقيضا، يفهم في سياقات أخرى إيجابيا، فإنه على مستوى الممارسة يدخل في نطاق التدمير، والتعريض للانقراض، إما بكيفية مباشرة ومقصودة، أو بشكل لا إرادي أو طبيعي. وفي الحالتين معا تبدو الطبيعة مهددة من قبل الإنسان.
شاهدنا مؤخرا حرائق الأمازون، وفي جبال لبنان، وأخيرا تسونامي الحرائق في أستراليا. ومع ذلك نجدهم يتحدثون عن الحفاظ على البيئة، والاحتباس الحراري. يتحمل الإنسان كل المسؤولية التي تتعرض لها الطبيعة، جراء الهجوم القاسي الذي يمارسه عليها بعنجهية وبلا شفقة، ولا يهمه في ذلك سوى مصلحته المادية. لذلك لا نعجب إذا ما رأيناه يفكر في البحث عن كواكب أخرى صالحة للحياة، لينتقل إليها بعد أن يلقي بكل ترسانته النووية على هذه الأرض الجميلة.
المغرب الأخضر بدون ثقافة طبيعية، وحماية للتراث الطبيعي، لن يكون سوى مغرب الطوب والآجر.
كم من النباتات والحيوانات في البر والبحر تتعرض للانقراض المدروس من لدن الإنسان يوميا؟ أين هي «أسود الأطلس» في المغرب، التي صارت نعتا للفريق الوطني؟ وأين هي الغزلان التي ظلت مميزة وسط الوحيش المغربي؟ والأمثلة لا حصر لها حول أنواع الطيور والأعشاب. لا يختلف التراث الطبيعي عن أي تراث آخر، بل إنه، إذا حوفظ عليه، أبقى وأكبر من أي تراث. وإذا قارناه بأي تراث آخر نجده أكثر دلالة على الزمن الطبيعي للجغرافيا، في علاقتها بكل ما يتصل بها. لنضرب مثال شجرة أرز كَورو في جبال الأطلس التي يزورها سنويا حوالي ستين ألف سائح تقريبا، والتي تحمل اسم الجنرال الفرنسي هنري جوزيف أوجين كورور. يقدر عمرها بحوالي ثمانية قرون، وما تزال شاهدة على تاريخ عريق. وهناك أشجار أخرى أكبر منها عمرا، ولكنها لم تكتسب الشهرة والبعد الرمزي الذي تحتفظ به، لصلتها بالجنرال الفرنسي، وموقعها الخاص. يحق للسائح المغربي والأجنبي أن يفكر في زيارة الشجرة، فهي من الآثار الجغرافية الطبيعية التي تعيد للإنسان علاقته بالطبيعة.
إن الشجرة ليست فقط نبتة نستظل بأوراقها، أو نستلذ بطعم فاكهتها. إنها في صلتها بالإنسان ترتبط بذاكرة أشخاص وأجيال. ولعل علاقة الإبداع الشعبي والغنائي، والإنساني عامة بالشجرة، وما يتصل بها، مما يمكن أن يهتم به النقد الطبيعي (أو البيئي) يعمق لدينا أهمية العوالم الطبيعية في الإبداع. أتذكر في هذا السياق قولة للعقاد، تسجلت في ذاكرتي خلال المراهقة، يقول فيها: إن تعليمنا الأجيال القادمة حب الوردة معناه حب الجمال والارتباط بالوطن. وفي التراث الأدبي العربي غرض خاص بشعر الطبيعة، ولو درسناه في نطاق ما يتحقق الآن مع النقد الطبيعي لتغيرت رؤيتنا لقسم من أدبنا العربي.
تختلف الشعوب في درجة اهتمامها بتراثها الطبيعي، قوة وضعفا. وفي البلدان المتقدمة نجد اهتماما كبيرا بالحدائق، التي أعتبرها نصوصا فنية طبيعية، لا تختلف من حيث أشكالها ومضامينها، ودلالاتها وتصميماتها عن أي إبداع. لا نقرأ هذه النصوص الطبيعية لأننا لا نمتلك «ثقافة طبيعة» تؤهلنا لرؤية الإبداع من خلال الطبيعة، وقد شكلها الإنسان، لأن ما هو مهيمن لا يجعلنا نلتفت إلا للدمار الذي يمارسه الإنسان عليها. زرع الاستعمار في المغرب الأشجار على جوانب مداخل المدن والقرى، والأسواق الأسبوعية. ما بقي منها صار معمرا. ظلت هذه الأشجار تزين المدن، وكنت كلما توجهنا من البيضاء إلى فاس أتأملها، وحيثما توقفنا كان يسترعي انتباهي جمالها وعظمتها. مؤخرا بين تمارة والصخيرات وجدتهم يقطعون هذه الأشجار الضخمة، فتألمت كثيرا. لقد زحف الرصيف على الذاكرة الجماعية، وقضى الجشع العقاري على كل ما هو طبيعي وتاريخي. كانت مراكش معروفة بنخيلها، وكانت المدينة تستقبل زائريها بغابة من النخيل، لكنها الآن صارت لا تختلف عن أي مدينة إسمنتية أخرى؟
المغرب الأخضر بدون ثقافة طبيعية، وحماية للتراث الطبيعي، لن يكون سوى مغرب الطوب والآجر.
٭ كاتب مغربي