الترجمة وأدب المشرق: بين التأصيل والمواجهة

جيفري ناش | ترجمة: صالح الرزوق
حجم الخط
0

ربما تبدو الكتابات الأنكلوعربية مثل أعمال مترجمة، فالعرب الذين يؤلفون بالإنكليزية يواجهون مشاكل يعاني منها المترجمون. وبعض المنظرين «يستعمل كلمة ترجمة بمعنى استعارة لتفسير الاستعمار وآلية التخلص منه». وهم يرون، بتعبير آن مالينا 2001، أن الترجمة «تخدم الإمبريالية وتفيد المقاومة». ويرى عبد الكبير الخطيبي أن كتابات المغاربة الفرانكوفونيين تندرج ضمن أدب المقاومة، لأن علاقاتها «مع الماضي الموروث وثقافته شكلت عبئا على المستعمِر وسياسته الإمبريالية». وحينما يستعمل الكاتب المغربي اللغة الفرنسية، كما يقول الخطيبي، «يحتفظ بمسافة تبعده عن اللغة التي يعدلها، ويخربها، حتى يصل إلى بنية مختلفة يشعر أمامها القارئ الفرنسي بأن لغته غريبة عنه».
وتذكر سامية محرز في مقالتها المهمة «الترجمة والاتجاهات بعد الاستعمارية» أنه «في التعامل مع عدة ثقافات، وعدة لغات، وبالتجريب ضمن عدة عوالم، وضمن حدود النص نفسه، غالبا ما يمثل الأدب الأنكلو – والفرانكوفوني، الذي ينتمي لما بعد التقاليد الاستعمارية، نوعا من التحدي لمفهومنا عن العمل الأصلي وترجمته. فهذه النصوص بعد الاستعمارية تلعب دور أداة مقاومة بعدة طرق، وبالنتيجة تستبعد اللسان الواحد وتفرض على القراء أن يتطابقوا مع أنفسهم: أن يكونوا في الما بين، جاهزين للقراءة والترجمة في وقت واحد، فالترجمة هنا جزء أساسي من عملية القراءة».
ثم تحاول محرز أن تؤكد أن كتابات آسيا جبار والطاهر بن جلون وعبد الكبير الخطيبي تخلق لغة جديدة تتحدى فكرة النص «الأجنبي» القابل بيسر وسهولة للترجمة إلى لغة مغايرة». فهؤلاء الكتاب يوظفون ازدواجيتهم الألسنية لينافسوا الاستعمار داخل لغته وثقافته، وليتنافسوا داخل لغتهم الوطنية/ التقليدية أيضا، وليضيفوا إلى كتاباتهم لسانا مثقفا متعدد الطبقات يقود إلى أعماق المعنى الذي لا يمكن للقارئ الفرانكوفوني أن يفك ألغازه المشفرة على نحو كاف. لكن صلة الوصل بين الكاتب المغربي واللغة الفرنسية أكثر تعقيدا وغموضا مما هو الحال بين الكتاب العرب واللسان الإنكليزي. وحالة الطرف الثاني مع جماهير القراء أقل راديكالية ولا تفرض المقدار نفسه من التحدي. مثلا هم لا يثيرون العاصفة النقدية نفسها بين أبناء هويتهم – أو بين أولئك الذين يحملون هوية ثقافية ووطنية بالمعنى الألسني للمصطلح (كما تقول لوسي ستون مكنيسي في مقالتها «حماقات ما بعد الحداثة») – كما هو حال بن جلون وجبار أو إدريس الشرايبي (وعلى الأغلب لا تكون صورة الكاتب الأنكلو عربي في الدول العربية مثل صورته في الغرب). وإذا زعمت محرز أن الكتاب المغاربة يضعون جمهور قرائهم «على أعتاب ما هو غير قابل للترجمة» هذا لأن تجربة القراءة ذاتها لا يمكن أن تكون إلا ترجمة لامتناهية وأنا أشك في أن الكلام نفسه ينطبق على الكتاب الأنكلو عرب. ويعتبر كتاب «الجزائر البيضاء» وهو مذكرات لآسيا جبار، مثالا على عتبة «عسر الترجمة». فهو تعرية مؤلمة لحيرة «المثلث الألسني» الذي تعتقد أنه تفشى في أدبيات الجزائر، وتسبب بتفكيك المجتمع واندلاع الإرهاب طوال التسعينيات. وبالنتيجة تؤكد أنه «في هذه الصحراء الرائعة، وفي هذا المرفأ الآمن للكتابة التي تبحث عن لغة موجودة فوق اللغات، تتكرر المحاولة الهادفة للتخلص من الحنق الذاتي الذي يفتك بالذات الاجتماعية، حتى نجد «الكلمة في الداخل» مجددا، وهذا وحده ما تبقى لنا، وهو موطننا الجاهز للعطاء والإنتاج».
هل يصح إذن أن نقول إن الكتاب الأنكلوفونيين العرب لا ينتمون إلى عالم المقاومة بعد الكولونيالي؟ في حالة فاديا الفقير يمكن التأكيد أن ازدواجية اللسان تتحدى التقاليد الأدبية العربية والإنكليزية، على حد سواء. فهي تلجأ إلى اللغتين «لتعيد كل منهما إنتاج وكتابة الأخرى» وكذلك لتجابه أشكال الاستبعاد التي تعترضها في ثقافتها المحلية وثقافة المضيف (وهذا الكلام لسامية محرز). ونحن نشاهد حالة مماثلة في روايات توني حنانيا.
يصنع حنانيا لغة «الما بين» وهو يكتب انطلاقا من هجونته، «ليحتل لاحقا مساحة تقع في «الما بين». وقد نجحت أعماله بإبعاد اللغة الإنكليزية عن أرضها، ثم بتوريط القارئ في فضاء عبثي بعد حداثي. وتدعي مكنيسي أن الكلام نفسه ينطبق على بن جلون. وأعمال حنانيا تستعمل مثله أسلوب انزياح الإشارة والبوليفونية وأثر المرآة المعدل، الذي على ما يبدو أنه يحاكي الأعراض الأدبية لأزمة ثقافة المجتمع الغربي، وضمنها انهيار البنيات المطلقة والمواجهة اليومية مع تقاليد راديكالية مختلفة.
عموما تحتفظ كتابات حنانيا، في تمثيلاتها لأعلى شريحة من الطبقة المتوسطة، بذاتها ونرجسيتها الشخصية المتطورة، وبالقليل من الاستعارات، مع أمثولات وخرافات تعتقد مكنيسي أنها تصل ما بين بن جلون وتقاليد الثقافة المغربية ،وهو ما يعير سرده خاصية «تفعيل تحولات الشعور الباطن». لكن بالمقابل تبدأ أهداف سويف من بداية تجريبية تجسد ما نسميه ترجمة الثقافة. ومع أنها تحقن كتاباتها بثيمات مصرية وتراكيب «مترجمة» تكون الغلبة لتمثيلات ورموز الغر. وهذا شأن بقية الكتاب المتميزين مثل ليلى أبو ليلى وجمال محجوب. فقد اختاروا أنواعا فنية، لكن دمجوها بالمثاقفة مع أساليب ومغامرات جديدة.
وبمقارنة الكتابة الفرانكوفونية في شمال افريقيا، يبدو لنا تقصير وعجز الكتابة الأنكلوفونية عن منافسة لغة المستعمِر. وربما كان من السهل عليها الاندماج بثقافة وشيفرة اللسان الإنكليزي المسيطر. وكتابات الأنكلوفونيين العرب في الأعوام العشرين الأخيرة تختلف عن أدب الفرانكوفونيين في شمال افريقيا، لأنها لم تتعرض للذوبان في فرن المقاومة المعارض لثقافة وسياسة الاستعماريين. ويمكن القول إن الأنكلوفونيين العرب لم يخرجوا من ظروف مادية قاسية، شهدتها مرحلة الصراع ضد القوات المستعمرة، لكن كانوا ثمرة العولمة التي اجتاحت نهايات القرن العشرين.

* أكاديمي وباحث بريطاني
** مترجم سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية