التزام أم تورّط

قد يتهيّأ للبعض أنّ الالتزام الأدبي مفهوم ولّى زمانه، وأنّ الأدب عاد إلى عالمه الجمالي الخاصّ، وأنّ مداره اليوم على الذات في أخصّ خصائصها. والحقّ أنّ من يتابع الدراسات والمباحث الحديثة، يلاحظ كيف أنّ هذا المفهوم لا يزال مثار جدل وسجال كبيرين، وأنّ الأسئلة بشأنه لم تنقطع: فباسم ماذا يلتزم الكاتب؟ وباسم من؟ وهل يعرف الكاتب حقّا الجمهور الذي يتوجّه إليه بأدبه، أو الذين يعتبرونه لسان حالهم؟ وكيف؟

والالتزام يعزو إلى الأدب واجب التدخّل المباشر في شؤون العالم وأشيائه وحالاته أي في “ما لا يعنيه” بعبارة سارتر، وإلزام الكاتب مغادرة وضع العزلة المريح القائم على “الصفائيّة” الجماليّة (ولعلّها أدق نسبة إلى الصفاء من صفويّة نسبة إلى الصفوة) أي الحرص المفرط على صفاء اللغة والأسلوب. ومن هذا المنظور، فإنّ مذهب سارتر وما ارتبط به من مفاهيم الحريّة والتحرّر والوعي بما هو نحن؛ إنّما هو امتداد للسجالات الأدبيّة والفلسفيّة ما بين 1920 و1930. والكاتب في نظره، ملتزم كلّما كان واعيا بكونه مورّطا، فينقل من ثمّة الالتزام من العفويّ إلى التبصّر. وقد لا يخفى أنّها استعادة منه لصيغة باسكال في قوله “… أنت متورّط، ولك شيئان تخسرهما هما الخير والشرّ، وشيئان تلتزمهما هما معرفتك وغبطتك”. وحاصل رأي سارتر، وهو مغرٍ؛ أنّ الكاتب يختار موقفه أي عصره، بدل من أن يختاره العصر. ولألبير كامي رأي قد يبدو مشابها؛ فقد كتب عام 1957 أنّ “الفنّان سواء أشاء أم أبى متورّط”. وأضاف أنّ “متورّط” أصحّ من “ملتزم” إذ “ليس المقصود التزام الفنّان الإرادي، وإنّما الخدمة العسكريّة الإجباريّة” وهي ليست التطّوّع كما قد يقع في الظنّ. ومهما يكن فإنّ الالتزام محكوم بالمخاطرة والمجهول أو اللامتوقّع؛ أو هو نوع من الارتهان كما يرى البعض.

لكنّ الغريب في الأمر، واللافت للنظر حقّا أنّ موقف سارتر كان موضوع نزاع وخلاف في أواسط الخمسينات، من أجل العودة إلى تقليديّة الحكم الأدبي القائم على أنّ الأدبيّ منفصل تماما عن دائرة السياسي. ولكن مفهوم الالتزام تواصل، معدّلا اتّجاهه أو حدّه. وباختزال شديد فإنّ مطلب الالتزام اليوم، أي بعد سارتر، وضدّ طروحاته؛ ليس بالهذيان ولا بالذهان؛ إذ ليس المقصود إرضاء نزعات نظام أو طرف سياسيّ أو إيديولوجيا؛ وإنّما دحض الفكرة القائلة بأنّ وظيفة الأدب الاجتماعيّة تتجلّى أوّلا في مدى انغماسه أو تورّطه في السياسي. وعلى العكس من ذلك فإنّه بفضل إظهار المسافة اللازمة عن نسق السياسي، يعود الأدب إلى عالمه. ومن ثمّة يمكن أن يضطلع بمسؤوليّته. وبعبارة أخرى فإنّ فكّ الارتباط أو لزوم ما يلزم في الأدب من حيث الأسلوب وتجويد العبارة، هو الشكل الأكثر أصالة للالتزام المطبوع أو الموثوق به. ذلك أنّ شتّى المحاولات الحماسيّة المثيرة للعواطف، التي يسعى أصحابها إلى إشراك الأدب في السجالات والمناقشات السياسيّة والاجتماعيّة، لا يمكن إلاّ أن تصدر عن رؤية تشوّه الفعل الأدبي، أو تنزل به سهل الأباطح. على أنّ هناك مفهومين متعارضين متتابعين للالتزام، أو حدّين بينهما على ما يبدو نقطة متحرّكة واصلة؛ إذ هما متصاحبان متعايشان؛ لكن دون أن نغفل ما يفصل بينهما. وهذان القطبان يجدان ركيزتهما الأقوى عند مؤلّفين فاعلين، في ما بعد الحرب؛ هما سارتر وجورج باتاي. ويرى البعض أنّه يمكن التمييز بينهما، فالتسمية “الالتزام” إنّما هي لسارتر؛ أي التزام الأدب في المجال الاجتماعي السياسي. على أن نحتفظ في الآن نفسه بعبارة “أخلاق الأدب”. وبالرغم من الفروق بينهما، فإنّهما يلتقيان في جوانب غير قليلة، في السياق الذي أنا به، إذ هما يرفضان ما يمكن أن نسمّيه “الاكتفاء الذاتي للأدب” أي حصر الأدب في مجرّد نشاط شكلانيّ. بل هما يكشفان فيه عن قدرته على تغيير العالم، وعلى تحرير نفسه أيضا.

ودون تفصيل وإفاضة في القول، ليس هنا مجالهما، فإنّ إشكاليّة الالتزام، وثيقة الارتباط بالحداثة الأدبيّة في الغرب، بالرغم ممّا يحفّ هذه الكلمة من غموض. ذلك أنّها مرتبطة على نحو ما بإخفاق ثورة 1848 وقيام الامبراطوريّة الثانية، وإلى انقطاع الصلة بمواقف الرومانسيّة الاجتماعيّة، حيث برز مفهوم للأدب مطابق حدّ التماهي، للواقع الاجتماعي المستقلّ أي هو قادر على الإفلات من مؤثّرات الخارج وإيعازاته، ومصدرها السياسي أو النظام الاقتصادي. وهو ما يريد الأدب الحديث أن يقطع صلته به كليّة. ومحصّلة هذا التحوّل في نظام الأدبيّ هو، عكس الموقف الرومانسي، تفكيك الاتجاه الجمالي والقيم المقبولة اجتماعيّا أي قيم الخير والحقّ.

وها هنا يبرز المضمون الأقوى في نظريّة الالتزام عند سارتر، أي في محاولته تبيين الفروق بين التعريف الدنيوي (وهذا أدقّ من مدنّس) للأدب، والتعريف المقدّس له. ومغامرة الأدب الحديث بالنسبة إليه، وتحديدا الشعر من بودلير إلى مالارميه، بدأت بـ”موت الإله”، ومع ما سيضمره الكاتب في نفسه، من ذلك؛ من الغلّ أو الضغينة، إذ وجد نفسه منذ تلك اللحظة فصاعدا، محروما من الكفالة أو الحماية التي كانت توفّرها له السلطة الخالقة للكلمة.

في سياق السجال الحيّ حول الالتزام، والمجابهة بين سارتر وباتاي؛ طُرح سؤال إرث الحداثة. ولعلّ أبرز ما فيه تعريف سلطات الأدب أو قدراته، أي ما نسميّه التزاما. وقد يتعذّر من دونها أن ننظر في المسألة، إذا نحن أغفلنا البحث في الأدب من حيث هو ظاهرة إيمان أو اعتقاد. ولنا أن نشير هنا إلى مفهوم الالتزام في الوجوديّة المسيحيّة الفرنسيّة؛ وهو حسب غابريال مارسال:”مظهر الإخلاص للذات أي هو فعل اختيار وحقّ يتميّز بهما الشخص، ما يعنيه ذلك من مخاطرة ومن مجهول.”

والذات إنّما تَمثلُ حدّا فلسفيّا لعلاقة الإنسان بالعالم وبالآخر، وتَمثل كيانا بسيكولوجيّا يميّز فردا أو جماعة، وتَمثلُ هويّة لتخصيص فرد أو جماعة من جهة قانونيّة أو اجتماعيّة أو غير ذلك.

وعلى رأس هذه الأنحاء يبرز الحدّ الفلسفي الذي يخصّ الذات بقدرة على الوعي تخصيصا. وهي علاقة منوطة بذات محمولة على حدّ الإدراك. والالتزام نظريّا مداره على الذات التي تنهض بتأسيس المفاهيم، وفي العمل الأدبي الذات التي تتولّى فعل الإدراك أو الذات التي “تلتزم” موقفا ما.

ولا بدّ من الإشارة ها هنا إلى أنّنا نصدر عن التمييز بين ثلاثة أنماط من الخطاب، حيث الخطاب الفلسفي معقود على التوسّل بالمفهوم، فيما الخطاب الفنّي معقود على التوسّل بفعل الإدراك، والخطاب الديني معقود على الانفعال. وفي ضوء مدلول الذات هذا، يمكن أن نتأوّل الأدب في سياق تداخله مع السياسي أو المعرفي عامّة باعتباره سياقا يفضي إلى أفق الكونيّة أو “كونيّة الخطاب الذاتي” كما تسمّيه سيلفي سرفواز وهي تتمثّل برسالة زولا الشهيرة “إنّي أتّهم” في قضيّة دريفوس. وربّما وجب أن نشير إلى أنّنا لا ندرج هذا التأويل ضمن السياق الرومانسي. والذات الرومانسيّة إنّما هي ذات انفعاليّة، ولذلك يمكن اعتبار الأدب الرومانسي أقرب إلى معنى الديانة؛ في حين أنّ الذات في فضاء الأدب عامّة إنّما هو حضور ذات إدراكيّة.

ما أخلص إليه هو أنّ الموقف الحديث من الالتزام مبنيّ على نوع من “الإحراج” أي على وضعٍ، محوره رأيان متعارضان؛ ولكلّ منهما حجّته في الجواب. ولكنّ المقصد هو جعل الأدب يتّصل بالفضاء العامّ، وينفصل عنه؛ أي أن يكون في “الخارج” و”الداخل” في الآن نفسه، وفي حلّ من الإلزامات أو الإكراهات الاجتماعيّة، ويختصّ مع ذلك بوظيفة معترف بها اجتماعيّا، ولها قيمتها. وهذا معناه أنّ الأدب الحديث يمثل من حيث هو مؤسّسة لها طبيعتها الخاصّة، إذ يتحّدد استقلاله في ما هو رفض وقطع صلة بجملة من القيم معناها العامّ هو عادة أساس الفردـ الجمع أو”أنا ـ نحن” في المجتمعات الحديثة. وبعبارة أخرى هو أدب ينتج قيمه الخاصّة، أو أنّ الكاتب يتحرّر من القواعد التي تفرضها الأخلاق العامّة، من أجل نمط من الأخلاق خاصّ به، وهي أخلاق الفنّ أو الأدب أو ما هو جماليّ عامّة. ولو كان في المقال فسحة لفصّلت القول في قضيّة لويس أرغون، وقصيدته “الجبهة الحمراء”؛ وقد لاحقه القضاء بسببها عام 1932، بتهمة الدعوة إلى العصيان والعنف الثوري. وما كان من أندريه بروتون إلاّ أن تصدّى للدفاع عنه، مؤكّدا أنّ الشعر لا يمكن أن يحاكم بمقتضى قوانين القضاء المدني. ثمّ كانت القطيعة بينهما لأنّ بروتون لم يكن بإمكانه أن يذهب أبعد، فانضمام أرغون إلى الحزب الشيوعي. وقد استحضر سارتر هذه الواقعة مبيّنا المسافة بين الالتزام الأدبي وأخلاقيّة الأدب؛ فالكاتب الحديث “واجبه الأوّل إثارة الفضيحة، ومن حقّه غير القابل للتقادم [قضائيّا] أن يفلت من عواقبها.”

* كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية