التشابه ليس إبداعاً

حجم الخط
16

أظن أن الكثير من العرب وبالذات الذين أقاموا في فرنسا، سمعوا بالمغني المشهور في بلده جوني هاليداي، لكنهم لم يسمعوا باسم جان بابتيست غوغان هذا على الرغم من تشابه صوته مع صوت جوني هاليداي حتى التطابق. عرفه الناس في برنامج خاص بالأغاني الاستثنائية كما الأصوات، وحين غنى جان بابتيست غوغان في المباراة أذهل الجميع، فصوته كمطرب نسخة عن صوت الشهير جوني هاليداي الذي خرج في جنازته قبل أعوام مليون مواطن فرنسي معجب وأغلقوا جادة الشانزيليزيه (التي يدعوها الفرنسيون أجمل جادة في العالم) لتتسع لمودعيه ومشت خلف السيارة التي تحمل تابوته زوجته الشابة لوتيسيا برفقة ابنتيهما (بالتبني)، وكان ينتظر التابوت أمام الكاتدرائية التأبينية ابن المغني الشاب ديفيد وابنته نورا (بعد ذلك غرقت زوجته الشابة الجميلة لوتيسيا في متاعب قضائية مع ابنه المغني ديفيد وابنته الممثلة لورا) وجاء العديد من رؤساء الجمهورية الفرنسية السابقين وزوجاتهم لحضور تأبين جوني هاليداي.

جريمة جان بابتيست: التشابه الفتاك!

وهكذا في إحدى المسابقات على مبلغ 100 ألف يورو ربح الجائزة جان بابتيست بصوته المشابه لصوت جوني هاليداي، حتى ليظن المستمع أن حنجرة جوني تقمصت بابتيست وبالذات حنجرة هذا الشاب الوسيم جان بابتيست، ثم ماذا؟
لا شيء. فالتشابه لا يؤدي إلى النجاح، بل إلى لحظة دهشة، وربما جائزة، ثم يختفي الشبيه وتظل أغاني الأصيل حتى ولو صارت قديمة بعد رحيله.

«الفوتوكوبي» الصوت

المستمع أو القارئ لا يبحث عن التشابه حتى ولو كان تطابقاً، بل يبحث عن النسخة الأصلية، ولذا أكرر: التشابه في الأسماء أو أسلوب الكتابة أدبياً والتشابه في الأصوات فنياً وغير ذلك لا يعني شيئاً. المطلوب دائماً نسخة أصلية واحدة، أما (فوتوكوبي) الصوت (كما جان بابتيست غوغان مثلاً) فلا قيمة فنية، كما (التشابه الأدبي). الإبداع هو نسخة واحدة دائماً في الحقول كلها من أدبية وغنائية وسواها. في حقل الإبداع، لا قيمة للتشابه والنسخ. لا بد من الأصل الذي يتكرر مهما تشابه مع سواه.

لا طاقة في بيروت لنهدرها!

صيف حار هذه السنة في فرنسا. أضرم حرائق الغابات. ولذا تقوم فرنسا بحملة ضد هدر الطاقة الكهربائية (ليس لدينا في بيروت كهرباء أصلاً لنقوم بهدرها!) ولنقوم بحملة مماثلة!
في باريس صدر قرار بتكليف أصحاب الحوانيت مكيفة الهواء دفع غرامة قد تبلغ 270 يورو إذا ترك باب حانوته مفتوحاً يتسرب منه الهواء البارد المكيف إلى الشارع (لاجتذاب الزبائن الذين يعانون من الحر).
وصرنا نقرأ على أبواب بعض الحوانيت عبارة: «من فضلك، أغلق الباب» ليقوم الزبون بإغلاقه بعد دخوله وخروجه.
هذه (المشكلة) غير موجودة في بيروت (لأنه لا كهرباء فيها إلا فيما ندر!).. أما منع هدر «الطاقة في فرنسا، فمن ضمنها خفض ضوء مصابيح الشارع، (نحن في بيروت نحلم بإضاءة دهليز بيتنا)!

الألعاب النارية وهدر المال

لأنه تصادف أنني أعيش في باريس قرب (برج إيفل) محور الألعاب النارية ليلة 14 تموز (يوليو) (يوم العيد الوطني الفرنسي الذي يحتفلون به كل عام بالموسيقى السمفونية أمام البرج ثم بالألعاب النارية حين يحل الظلام)، اشتكت لي إحدى جاراتي الفرنسيات، وهي من أسرة فرنسية عريقة شارك أحد أجدادها في الثورة الفرنسية على الحكم الملكي منذ قرون وشارك في هدم سجن الباستيل، لكنها تجد في الألعاب النارية السنوية هدراً للمال، تماماً كهدر الكهرباء حين لا يغلق الزبون في أحد الدكاكين (المكيفة) الباب خلفه. من طرفي، دون أن يحق لي قول ذلك كعربية تعيش منذ حوالي 35 سنة قرب برج إيفل (أعاني) من الألعاب النارية ليلة احتفال الفرنسيين بعيدهم الوطني (14 تموز)/ يوليو بل إن بعض جيراني يأتون إليّ لمشاهدة جمال الألعاب النارية من نوافذ بيتي في الطابق المرتفع من مبنى في حي يدعوه البعض مانهاتن باريس، فمبانيه كلها شاهقة الارتفاع كما في مانهاتن نيويورك.

لأنني خريجة حرب أهلية!

بعد الحرب الأهلية اللبنانية التي نجوت منها وكتبت عنها في رواياتي، أعترف بأنني صرت أكره صوت الانفجارات حتى إذا ارتدت قالباً ضوئياً جميلاً هو الألعاب النارية. وصار أي انفجار يزلزلني ويعيدني إلى بيروت وكوابيسها وحربها الأهلية والقصف والانفجارات، وصرت أنفر منها حتى ولو كانت احتفالية، بل وجميلة كما الألعاب النارية الباريسية ليلة عيدها الوطني كل عام.

الألعاب النارية قاتلة أيضاً

أضافت صديقتي الفرنسية أن الاحتفال بالعيد الوطني بالألعاب النارية سبب هذا العام ضحيتين: شابة عمرها 24 سنة، وشقيقها وعمره 10 سنوات. فالألعاب النارية في لحظات نادرة تترك بعض مساراتها وتنفجر في أماكن أخرى مزدحمة بالناس وعلى الأرض. وأضافت صديقتي (الفرنسية جداً): أعتقد أن اللعب بالنار مؤذ حتى ولو كان احتفالياً وفي بلد متحضر كفرنسا بلدي. لم أقل شيئاً، إذ لا يحق لي الاعتراض على ما لا يخصني، وقررت التركيز على الموسيقى البديعة التي يحتضنها برج إيفل ويقدمها مقدم البرامج المعروف ستيفان برن، ويقال إنه يعود بنسبه إلى إحدى العائلات المالكة (وبالتالي فحضوره رمزي؟).
لا أدري. لا يحق لي إبداء رأيي، بل فقط تأمل ما يدور، وعدم إعلان كراهيتي لجمال الألعاب النارية بسبب انفجاراتها، أنا القادمة من حرب أهلية ولا تطيق سماع انفجار.
أضافت صديقتي الفرنسية: لماذا يهدرون مالنا التي ندفعها كضرائب لعرض ناري كهذا وبوسعنا الاستغناء عن ذلك الهدر الأكثر هدراً من ترك باب حانوت مكيف مفتوحاً! حين لا تكون فرنسياً أباً عن جد مثلي، تفضل الصمت والاستماع للآخرين.
فقد علمتني الغربة الصمت!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نجم الدراجي - العراق:

    أحببت هذا النص الرائع ( الإبداع هو نسخة واحدة دائماً في الحقول كلها من أدبية وغنائية وسواها. في حقل الإبداع، لا قيمة للتشابه والنسخ ) … هذا النص يسافر بي إلى المقام العراقي العريق الذي يسحرني … والذي تعود جذوره التأريخية إلى العصر العباسي ، ومن جماليات المقام العراقي هو منح أو فسح الحرية لقارئ المقام القراءة حسب ما يتوافق مع خامة صوته أو الطبقة التي تناسبه من قرار وجواب وبيان وشعر وموسيقى حتى يتشكل له طابع احترافي خاص به ، وهنا يكتسب الفنان اشباع معرفي بالفن مشفوعا بالموهبة ، ومن ثم ينطلق في تدرجاته في خلق حاله خاصة أو بصمة صوتية ، وبعدها يكون الفنان زاهد في التقليد ، وقد انتج المقام مدارس فنية عريقة مثل مدرسة محمد القبانجي وناظم الغزالي وسواهم ، اما الفنان الحديث فيمكنه الادء حسب قالب المقام البغدادي القديم بعيداً عن التقليد ، وحين تتحقق مناخات الحرية للموسيقى والفن والادب ينمو الابداع .
    تحياتي
    نجم الدراجي – بغداد

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    ” المطلوب دائماً نسخة أصلية واحدة، أما (فوتوكوبي) الصوت (كما جان بابتيست غوغان مثلاً) فلا قيمة فنية، كما (التشابه الأدبي). ” إهـ
    قد يكون ال(فوتوكوبي) أفضل من الأصلي !
    المشكلة أنه لم تحصل له فرصة كالأصلي !!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول أفانين كبة - كندا:

    طبعا يبقى الأصل دائما هو الأجمل والأقرب الى القلب لإنه يحمل روح وأحاسيس الفنان وعصارة حياته من آلام وأحزان ومعاناة وكذلك من أفراح ومسرات وتظهر هذه من خلال تفاعله أثناء الغناء ويستحيل من أن يتمكن أي شخص أن يتقمص روح الفنان التي يتميز بها عن غيره .
    هنالك مدينة باريسية مصغرة في الصين حاولوا فيها من أن يُقلدوا مدينة باريس الفرنسية في مبانيهاالمعمارية وشوارعها ومعالمها السياحية حتى هنالك نموذجا مصغر من برج ايفل ، لكن المشروع فشل و لم تجذب السياح اليها ، لأنها تفتقد الى الدفئ الأجتماعي وأصبحت مثل قرية مهجورة . فباريس الأصل هي مزدهرة وجميلة بروحها والحياة الأجتماعية فيها ، كذلك تأريخها وأدباءها وفنانيها ، لذا مهما حاولوا من تقليدها ، لم ولن يتمكنوا من خلق هذه الروح في النسخة الصينية من باريس !

    أفانين كبة – كندا

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    النرويجيين يشترون الألعاب النارية بأسعار باهظة لكي يشعلوها بأول دقيقة بالسنة الجديدة !
    أنا أشاهد هذه الألعاب من منزلي بالمجان , فهل أنا مجنون لأحرق مالي ؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول صوت العوائل السورية المغربية البريئة المحظورة في المغرب مرآة لعصر وصورة لزمن!:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    يأتي التشابه بين الناس أحيانا
    ليَشهد العقل أن الله سوّانا

  6. يقول الباشا:

    تحياتي للأديبة الرائعة غادة السمان ولقرائها….
    قولك التشابه ليس إبداعا ، أحالني إلى صوت غنائي متميز من جزيرة أرواد السورية هو صوت الفنان صفوان بهلوان الذي يشبه كثيرا صوت الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب .

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      صحبح أخي الباشا وكذلك صوت الفنانة ميادة الحناوي وفي الحالتين نرى بوضوح أن التشابه في الحنجرة لايعني التطابق أو التشابه على المستويات الأخرى الفنية أو المسيرة الفنية خاصة. وأن الفارق كبير بين تشابه الصوت ومسيرة الفنان الإبداعية!

  7. يقول أبو عمر. اسبانيا:

    تحية طيبة…علمتني الغربة المشاركة و إبداء الرأي.
    الاندماج و العمل و دفع الضرائب تخول المغترب حتى لو لم يكن مواطنا أبا عن جد لكي يعبر عن رأيه باحترام و طبعا يجب الإصغاء جيدا لرأي الآخرين.

  8. يقول سنتيك اليونان:

    لماذا الصمت ولا استنكار في العالم العربي للهجوم الوحشي على سلمان رشدي اللذي يصارع الموت في المستشفى في نيويورك

    1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

      أخي سنتيك، بصراحة لايوجد مبرر لأي جريمة وهذا الإنتقام من كاتب لايعبر إلا عن أن الإرهاب يخطط له الكبار. ربما يختلف الإنسان مع سلمان رشدي وأنا شخصيًا أعتقد أنه من غير المناسب أنه وضع نفسه في خدهة سياسة دولية (غربية إستعمارية) غير منصفة في هذا العالم. لكن من يقوم بهذه الجريمة يصب الزيت فوق النار وربما هذا مايقصده فاعل الجريمة، وليس حرصه على الدين والإيمان والإسلام طبعًا.

  9. يقول عمرو - سلطنة عمان:

    لطالما روج الإعلام لمفاهيم مثل فلان خليفة فلان على الرغم من أنه لا يوجد خليفة في الإبداع فلكل انسان ابداعه وشخصيته الخاصة والمتفردة.. وقد وقع الكثير من الفنانين في ذلك الفخ الإعلامي لسيما الذين ارتدوا عباءة أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسواهم وبقيت العباءة فضفاضه رغم جمال وموهبة تلك الأصوات الا أنها افتقدت للخصوصية وأصبحت مجرد مقلدة ولن تذكر يوما سوى بهذا الإطار وكذلك الأمر في الأدب..

    (علمتني الغربة الصمت) تذكرني هذه الجملة بالمقولة الشعبية (يا غريب كن أديب) كما تذكرني أن السيدة غادة لم تسعى لنيل الجنسية الفرنسية ولا تحبذ أن تمتلكها رغم اقامتها الطويلة بجوار برج ايفل فهي كما تقول لا تريد أن يعرف عنها يوما بالأديبة الفرنسية من أصل عربي.

  10. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    سيدتي الكريمة أسعد الله يومك وللجميع في هذا اليوم الصيفي الجميل. التشابه معروف وخاصة بعد أن أصبح التواصل ووسائل الإعلام متوفرة. لكن الإبداع فريد وخاصة عندما يشمل مسيرة حياة مبدع وأعمالة الإبداعية. حتى لوحة الرسام (المبدع) يمكن تقليدها, لكن نظرة دقيقة تبين الفارق. تبادر إلى ذهني موضوع التقليد وهو الذي نبدأ به كأطفال ثم تأتي مرحلة الإنتاج والإبداع, وهذا يختلف عن التقليد البديهي (الأعمى). يقال عن اليابانيين أنهم قلدوا فأبدعوا والصين في طريقها اليوم تشابه لليابان.
    نقطة مهمة, سيدتي تقنين الكهرباء والطاقة بسبب تغير المناخ هو حجة (واهية), السبب واضح إنها حرب بوتين على أوكرانيا المرغوب بها, اللهم إلا من محبي السلام والحرية والكرامة للإنسان في هذا العالم.
    لاأحب الألعاب النارية أبدًا وأُعبِّر عن ذلك, وأنا منذ أكثر من ثلاثين عامًا في ألمانيا وأحمل الجنسية. وأعتقد أنه ينقصي الحس الأدبي (والفني) وكل التقدير والإحترام لك في رأيك. أسأل نفسي عادًة هل أو كيف تعجن وتخبز شخصيتنا وطريقة تفكيرنا وتهذيبا, إهماماتنا ومن ثم حرفتنا وعملنا. من ناحيتي أعرف أنه عالبًا يعبر الرجال عن أرائهم بشكل مباشر وقد يبدو أحيانا غير مهذب. ومن ثم لاغنى نن الرأي العلمي الثاقب. لك وللجميع محبتي وتحياتي الحارة.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية