التشخيص: كراهية الذات

حجم الخط
0

قضت لجنة وزارية بأن محمد الدرة لم يُقتل، في شبه يقين، بنار جنود الجيش الاسرائيلي. وتنفس كثيرون في اسرائيل الصعداء لأن هذه على نحو عام طبيعة الانسان، أي ان يؤيد جيش شعبه ولا سيما حينما توجد آلاف الأدلة التي تُثبت طهارته. لأن أي جيش سواه في العالم يُبلغ أعداءه متى وأين سيهاجم بغرض منع اصابة المدنيين؟
لكن وُجد غير قليلين ايضا هاجموا التقرير: فهو غير موثوق به، وغير اختصاصي، وهو دعاية مضرة، يحق لمن لم يطلع على المواد التي اطلعت عليها اللجنة ان يخالف استنتاجاتها بالطبع. لكن صورة الانتقاد والتهكم والاستهانة مصدرها واحد وهو ان الجيش الاسرائيلي خرج بريئا، وهذا يخالف التصور العام لأنه من الواضح ان أحداثا مثل جنين والرصاص المصبوب ستبرهن على ان الجيش الاسرائيلي ينفذ جرائم حرب.
إن موت الدرة من جهة مبدئية ـ حتى لو قُتل ايضا ـ لا يختلف عن موت مئات أو ربما آلاف من الاولاد قُتلوا في الحروب الأهلية في ليبيا واليمن والعراق وسورية ولبنان. وينبغي ان نفترض انه فيما يتعلق بحالات قتل غير قليلة في سورية مثلا، توجد مادة مقنعة و’نوعية’ أي أكثر قسوة وأكثر دموية وأكثر اثارة للجزع ـ من الصور في ساحة مفترق نتساريم في ايلول/سبتمبر سنة 2000.
لكن وسائل الاعلام حولت الدرة وحده الى رمز، بسبب امكانية نسبة موته الى اسرائيل. وتُبث الصور منذ ذلك الحين الى اليوم ويتم تكرار بثها ـ باعتبار ذلك دعاية خالصة ـ في جميع شبكات التلفاز في العالم تقريبا. ورغم أنه لا يوجد ‘مقطع نهاية’ حقيقي يُثبت ان الولد قُتل، استنتج ملايين المشاهدين الكثير عن جيش الدفاع الاسرائيلي، ووسم جبين هذا الجيش فقط بعلامة عار ‘قاتل الاولاد’.
يُنتج الشريك الفلسطيني بجعله اسرائيل شيطانا، أبطالا. وتُنتج وسائل الاعلام العالمية التي تساعده على ذلك مشاهد تضخم أكثر من كل تناسب كل زلة اسرائيلية وتتهرب بصورة منهجية من الوحشية العربية التي توثق توثيقا جيدا وتشتمل على قتل اولاد بدم بارد.
تُبث ‘حكاية’ امرأة فلسطينية تستلقي لتلد قرب حاجز (ويولدها طبيب عسكري اسرائيلي لكنهم لا يبثون هذا) في مقدمة الأخبار في حين يذبح ‘الجانب المحق’ في سورية (أو في ليبيا أو في اليمن) بلا رحمة، ولا تكاد وسائل الاعلام تُظهر ذلك. يذبح المواطنين الذين هم من جسده ومن لحمه مع إظهار شهوة للقتل لا تحكم بها.
في غزة رمى رجال حماس بخصومهم من المباني المتعددة الطوابق، ونكلوا بعائلاتهم، ويوجد توثيق كبير لذلك، لكن الحكومات والمنظمات التي تندد باسرائيل بلا توقف، الى جانب شبكات الأخبار الكبرى في العالم، لا تندد ولا تكاد تبث ذلك لأن الصور مشاهدتها مؤلمة. وكذلك راعت قنوات التلفاز في اسرائيل التي تتبنى المعايير المهنية التي لا هوادة فيها لنظيراتها في الغرب، مشاعرنا وضاءلت إظهار الصور المزعزعة.
من الواجب علينا ان ننتقد أنفسنا، لكن جزءا كبيرا من انتقاد النفس أصبح تأييدا حقيقيا لأهداف العدو. فهم يتعاونون على نشر دعاية مسمومة، كما كانت الحال زمن عملية الرصاص المصبوب وبعدها، على دولة اليهود. ويشتغل بهذه الدعاية صحافيون ومنتجون ومخرجون، ويكون ذلك أكثر من مرة بنفقة مباشرة أو غير مباشرة من حكومة اسرائيل، وجمعيات ومنظمات سياسية. ولا يوجد بين العاملين في السينما والتلفاز حتى واحد يمنح واحدا من اولاد اسرائيل الذين قُتلوا بشتى أنواع القتل هالة البطولة. فهذا الحق محفوظ لمحمد الدرة وأشباهه فقط، وفي الأساس وفي العمق لا مفر من ان نسأل: هل أنتم معنا أم علينا؟

هآرتس 23/5/2013

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية