التشكيلي غسان غائب: الانتصار للبيئة بمفاهيم الفن

محمد العامري
حجم الخط
0

الفنان المغترب غسان غائب المولود في بغداد عام 1964، الذي أنهى دراسة الرسم في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1986 ثم التحق بكلية الفنون الجميلة وتخرج فيها عام 1997 لم يترك غسان مساحة في مخيلته، إلا حاول اختبارها في الرسم والتلوين، والعديد من التقنيات التي شكلت صبغته الفنية، ما أعطاه الفضاء الرحب للخروج من تقليدية العمل الفني، فقد اختبر شكل الفراشة بما تمثله من جمال وهشاشة، فصار السطح التصويري يتمثل شكل الفراشة، مستثمرا طبيعة الشكل ليضع فيه كل هواجسه اتجاه هذا الكائن الرقيق، وتجربته في الدفاتر الفنية التي هي أقرب إلى النحت التركيبي في طبيعة وجود الدفتر الذي يشتمل على تقنيات جديدة من أخشاب وأسلاك شائكة وكرتون وغيرها، هذا المسار جعل منه باحثا فنيا، يبحث عن طرائق أقرب إلى الغرابة في التعبير عن هواجس الفنان الذي ترك وطنه جراء الحروب وصار يضمّد وجوده من خلال الفعل الإبداعي.
يكاد غسان أن يكون الفنان الأكثر تنوعا في التقنيات والمواد العديدة بين أقرانه من الفنانين، هذا التعدد جاء من باب طرق أبواب مغلقة في مساحة الفنون في بغداد، فكان المسار الأكثر إدهاشا لما تطرحه تلك الأعمال من أسئلة متشعبة في حضور الفن الجديد، الذي أخلص لموضوعة العصر منها، الحروب والتلوث البيئي، حيث يشكل كوكب الأرض المكان الأكثر تغيرا، جرّاء الفعل الإنساني الذي ساهم في تخريب البيئة لتصبح عبئا على ساكنيه.
هذا التعدد في الاتجاهات التقنية قاده إلى تفرد في التوجه الفني الذي بدأ من اللوحة المسندية، وصولا إلى الفن التركيبي الإنستليشن وصولا إلى المفاهيمية، حاملا في طيات كل تجربة الخطاب المؤرق لحضوره كإنسان يعْبُر هذا العالم بخطى متعثرة، يجعلنا أمام منطقة فكرية جمالية، فكانت تحولاته الأدائية المتنوعة تحيلنا إلى القلق المركب للفنان غسان، قلق السوق والتجاوز وطبيعة العروض، التي تورطت بالسوق الفني وصولا إلى سؤاله الشخصي حول وجوده كفنان يريد أن يقدم حلمه ومخيلته كما يريد، ومن الواضح أنه حسم الأمر في تلك المسألة، لينتصر لذاته وما يريد أن يقدمه من فن يعبر عن هواجسه كإنسان يعيش في عصر سريع مليء بالتقانة والذكاء الاصطناعي، ما أعطاه المبرر للمغامرة في تصورات جديدة في الأسلوب والعرض.
ساهمت هجرة الفنان غسان غائب للإقامة في أمريكا في تفتح طرائقه في التعبير عن مشاكل عصرية ملحة، على رأسها تلوث كوكب الأرض فكانت تجربته الأخيرة في غاليري الأورفلي- عمان، هي الخطاب الأكثر مغامرة لنقد الفعل الإنساني المؤذي لكوكب الأرض، الذي شكّل صورة مباشرة من صور الموت للحيوان والإنسان، فقدم أفكاره الفكرية، التي تشتمل على تنظير اتجاه الحياة وما تؤول إليه من خراب وبؤس، والعالم لم يعد جميلا بالنسبة لغسان، حيث أثار في تجربته هذه مجموعة من الأفكار أظهر عبرها حضور الحيوان والحشرات والنباتات والحرائق، وصولا لمفاهيم عديدة للزمن.


الكوكب الأرض في جنبات صالة العرض، هكذا تدخلك أوراق الأشجار وجذوع الأشجار الملقاة على أرض الصالة، مساحة من البرّية التي انتقلت من أصلها الطبيعة، لتكون حاضرة أمامك، تدوس على أوراق الأشجار وتتعثر بجذع شجرة كأن المشهد يضعك أمام جرائمك كإنسان، فتصبح أقدامك أكثر حذرا وخفة، كجانب من خوف يتجلى فيك، خوف على تلك الأوراق الخضراء حيث يثير فيك مساحة عريضة من الأسئلة، سؤال التلوث وما يواجهك من خراب مؤكد نفعله دون دراية، حيث يمزج عش الطائر بالسطح التصويري كصورة مقتطعة من فكرتين فكرة الطبيعة ومخيلة الفنان، ليشكلا معا جمالية مثيرة للسؤال، حيث تتصادى جميع الأعمال عبر فكرة واحدة هي، كوكب الأرض، فهو العرض الناقد لمخلفات الإنسان، الذي يقدم مساحة من الوعي المتسلل من خلال فخ العمل الفني.
أعمال تقدم احتجاجا على الواقع المناخي، أو «الكارثة» وحساسية الخراب البيئي الذي يتسارع ليصل إلى بيوتاتنا، بل إلى أنوفنا وأجسادنا.
يبدو مجمل الأعمال المعروضة بطرائق مختلفة يختلط فيها الجدار مع أرض الصالة تمظهرات لقسوة الإنسان، الصورة الكارثية والمرعبة، والعلاقة الجاهلة بين الإنسان وبيئته، فقد استعان الفنان بكل أدواته من تأليف وتجهيز بالفراغ والمواءمة بين مواد مختلفة ليقدم تأليفا ذكيا بين مختلف المواد يعبر عن جرح غائر في جسد الكوكب، فالمواد الصناعية المستهلكة كانت حاضرة كجزء من خطاب العمل الفني، فماسح زجاج السيارات يترك أثرا في حركة اللون كــــصورة من بندول زمني يؤشر إلى طبيعة استمرارية الحركة السلبية للفعل الإنساني تجاه الكوكب، وكــــذلك البندقية التي تقدم صورة قوية عن الاحتراب والقتل، ودائرة حمراء قوية مصنوعة من شرانق الفراشات الميتة، يقول الفنان غسان غائب: «أحاول أن أنتقل من اهتمامي الذاتي والشخصي إلى محيطي الكوني الأوسع وإلى مشكلات تهدد الجميع».
والأمر طبيعي بالنسبة لتحيز الفنان للكوكب، كونه قد غادر موطنه الذي امتلأ باليورانــــــيوم المخصب جراء الـــحرب، والمخلفات النووية وغيرها، المعرض يقدم تجربة مغايرة عن الفن العراقي، ويشير إلى تحولات التعبير الفني من اللوحة المسندية إلى الفن المفاهيمي الذي يحمل أفكارا ناقدة لواقع مأساوي، ونرى إلى العمل الذي استعان بصورة للمدن، التي بدت كمربعات مـــجردة مسلط عليها في أسفل اللوحة كاميرا للمراقبة والتي تقدم صورة لانتفاء خصوصية الإنسان، وكذلك دخلت صورة المدينة على جسد الفراشة عبر الكولاج والتلوين، المعرض برمته يقدم لنا السؤال الأكبر، السؤال الحاضر الغائب، سؤال الحياة وما تذهب إليه من خراب مؤكد، وصورة أخــــــرى من أنانية الإنسان الذي يستثمر في استقدام المواد الملوثة مقابل المال، حيث تصبح تلك الملــــــوثات صورة أخرى من التجارة القذرة.

 كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية