إن الجدل الذي ثار من جديد بعد مرور اربعين سنة على حرب يوم الغفران ما زال مشحونا بالانفعالات وحكايات عن معارك من أشد ما عرفت الدولة. وظهر في مركز الحكايات، التي هي الغلاف، قصة الدبلوماسية الاسرائيلية الآسرة التي دبرها أفراد في القيادة العليا للدولة غولدا وغليلي وديان وأُخفيت، هكذا كانت الحقيقة، عن القيادة الامنية العليا. رفضت غولدا كل اقتراح مصري للتفاوض، واتفقت مع الولايات المتحدة على ألا تضغط على اسرائيل في هذا الشأن الى ما بعد الانتخابات. ووعدت عوض ذلك بالقول ان اسرائيل لن تنفذ أي هجوم عسكري على مصر. ولم تكن هذه التفاهمات معروفة للقيادة العليا الامنية العملياتية. ولهذا رفضت غولدا في مباحثات تقدير الوضع كل طلبات تجنيد قوات الاحتياط والضربة الاستباقية. يُستنتج استنتاج واحد من تلك الواقعة، وهو أن دولة اسرائيل أدارت سياسة أمنية قومية غير متسقة، وأن أقطاب الدولة لم يُشركوا قادة الجيش الذين بنوا مبدأ (ألف) بين تجنيد قوات الاحتياط والضربة الاستباقية، في حين تخلت القيادة العليا السياسية عن هذه الخيارات مع الامريكيين، ظانة أن الجيش الاسرائيلي سينتصر على كل حال (وهذا فرض خطأ). وأدار رابين وبيرس وبيلين المحادثات مع الفلسطينيين في اوسلو بعد حرب يوم الغفران بسنين كثيرة، ولم يُشرك فيها قادة الجهاز الامني. وتحدث بيلين في مقابلة معه في المدة الاخيرة عن أنه بعد أن أصبحت المحادثة حقيقية وسارت في طريق عملي، أوصى هو وبيرس رابين بأن يُشرك قادة الجهاز الامني رئيس هيئة الاركان ورؤساء الاجهزة السرية لكن رابين رفض الاقتراح، خشية التسريب والضغط العام كما يبدو. واتجهت دولة اسرائيل مرة اخرى الى مسار سياسي أمني ذي شأن، من دون أن تُشرك المستوى الامني العملياتي. قام تصور الامن القومي لاسرائيل غير المكتوب الذي صيغ في ايام بن غوريون، على ثلاث دعائم: الردع والانذار والحسم. أي أن دولة اسرائيل تعتمد على قوة عسكرية تردع العدو عن أن يوجه عمله عليها، وعلى جهاز استخباري يُنذر بعمل عسكري ويُمكّن من تجنيد قوات الاحتياط في حال فشل الردع، وعلى جهاز عسكري حاسم يهزم العدو اذا هاجم، بنقل سريع للمعركة الى ارض العدو. وهكذا تُحسم الحرب في وقت قصير ويزول التهديد للجبهة الاسرائيلية الداخلية. ومع ظهور القذائف الصاروخية البالستية وصواريخ الكاتيوشا وغيرها التي تهدد الجبهة الداخلية، أُضيفت دعامة الدفاع الى التصور العام ويفترض أن يوجد منذ الآن: الردع والانذار والحسم والدفاع. من العجيب ألا تظهر الدبلوماسية في التصور العام الامني الاسرائيلي في المكان الاول، باعتبارها عاملا يرمي الى منع حرب وانشاء تفاوض بيننا وبين جيراننا الى جانب مشاركة جهات دولية. إن الأحداث الاخيرة في سورية التي حُلت بها الى الآن ازمة السلاح الكيميائي باجراء دبلوماسي مدعوم بتهديد عسكري، وهجوم الابتسامات الايراني الذي جاء بعد التهديد بعمل عسكري وعقوبات ضاغطة وأفضى الى مسار دبلوماسي، من السابق لأوانه الى الآن أن نحكم عليه، هي شهادات اخرى على الحاجة الى اضافة الدبلوماسية والتفاوض الى التصور الامني من اجل انشاء تصور عام كامل متسق. يوجد في الولايات المتحدة نحو من 100 ممثل من وزارة الخارجية في مقرات عمل جنرالات كبار، وممثل عن هيئة القيادة العامة في وزارة الخارجية. وتوجد أمثلة اخرى على إشراك الدبلوماسية في العمل الامني يضيق المقام عن ذكرها. لا أوصي بتبني هذا النموذج أو ذاك لكن يُستحسن أن يتم تحديث التصور الامني لدولة اسرائيل وأن تُدمج الدبلوماسية التي قد تكون في احيان كثيرة أشد تأثيرا باعتبارها جزءا لا ينفصل عن التفكير والفعل الامنيين. ويكون من نتيجة ذلك أن يشتمل التصور الامني الاسرائيلي المُحدث على خمس دعائم وهي: الدبلوماسية والتفاوض، والردع، والانذار، والحسم، والدفاع.