قيل الكثير في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف إلى طهران مؤخرا، التي نتج عنها الاتفاق مع إيران على الشروع بالتحضيرات لعقد اجتماعات اللجنة المشتركة بين البلدين، وتفعيل آليات التعاون الثنائي في مختلف المجالات. ولم تخفِ عواصم عربية وإقليمية ودولية الاهتمام بهذه الزيارة، بل وعدّتها مفاجأة في هذا الوقت بالذات.
وهنا لا بد من التذكير بأن الجزائر كانت قد رحبت بوصول النظام السياسي القائم حاليا في طهران إلى السلطة في عام 1979، وحرصت على تعزيز علاقاتها معه، وبذلت جهودا كبيرة في التوسط لإيقاف الحرب العراقية الإيرانية التي دارت في ثمانينيات القرن المنصرم، غير أن مبدأ تصدير الثورة الذي اعتمده النظام الإيراني، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، أصاب العلاقات الجزائرية الإيرانية بمقتل، وأدى إلى حدوث قطيعة بين البلدين منذ عام 1993 وحتى عام 2000، على خلفية اتهام السلطات الجزائرية للنظام الإيراني، بتقديم الدعم السياسي والإعلامي للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر آنذاك. وقد استؤنفت العلاقات بين البلدين في بداية الولاية الأولى للرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، ثم تعززت بعد ذلك عبر زيارات متبادلة على مستوى القمة بين رئيسي البلدين، وكذلك بين المسؤولين من كلا الطرفين على شتى المستويات، فقد زار وزير الخارجية الجزائري السابق طهران في مطلع العام الماضي. كما كان للجنة الاقتصادية المشتركة بينهما دور بارز في إبرام عشرات الاتفاقيات في شتى المجالات، ورغم ذلك فإن ما ذكره وزير الخارجية الإيراني في تعليقه على زيارة الوزير الجزائري إلى طهران مؤخرا، بأن العلاقات بين طهران والجزائر على المسار الصحيح، يبدو أنها أثارت الانتباه، خاصة أن الخط البياني لهذه العلاقة بات في تصاعد سريع، ما دفع بعض المصادر للبحث عن الدوافع وراء ذلك، ثم صياغتها بشكل يوحي بأن التطبيع المغربي مع الكيان الصهيوني في المجالات العسكرية والأمنية خاصة، وكذلك ورود أنباء عن محاولات إيرانية لإعادة العلاقات مع المغرب، هما اللتان كانتا المحفز للخطوة الجزائرية نحو طهران. فهل حقا علاقات المغرب الخارجية كانت هي الدافع وراء تسارع الانفتاح الجزائري على إيران؟
يمكن القول إن العلاقات الجزائرية الإيرانية، إضافة لكونها جزء من إعادة صياغة سياسة إقليمية ودولية جزائرية جديدة، فإنها أيضا مرتبطة بملف الحرب الأوكرانية
يبدو أن هذا التصور بعيد بعض الشيء عن الواقع السياسي الجزائري، فهي دولة لها ثقل خاص في محيطها العربي، وعلى المستويين الافريقي والدولي أيضا، ولها أدواتها الخاصة في تحقيق سياساتها الخارجية، وأن ربط خطواتها في مجال الانفتاح على الواقع الدولي بسياسات دول أخرى، سواء كانت المغرب أو غيرها، ينزع عنها استراتيجيتها على المستوى الدولي، وكذلك يُفرغ خطة عملها التي تسير على ضوئها في الساحة الدولية، وبالتالي أي ربط في تطبيع العلاقات بين أي طرف دولي مع المغرب أو غيرها، لا يبني في الاساس خطوات الدبلوماسية الجزائرية.
صحيح أن التطبيع بين الرباط والكيان الصهيوني يثير حفيظة الجزائر، لأنه يشكل نوعا من الاقتراب من أمنها القومي، كما أن تهديدات إسرائيلية صدرت ضدها خلال زيارة مسؤول صهيوني للمغرب العام الماضي، كذلك شاركت إسرائيل في مناورات السد الافريقي لأول مرة، لكن كل ذلك لا تعتبره الجزائر تهديدا حقيقيا لها، يستدعي منها الهرولة نحو دول أخرى لتعزيز أمنها، كما أنها تعرف أيضا أن المغرب دولة ذات سيادة ولها الحق في اتخاذ ما تراه مناسبا من علاقات خارجية، بعيدا عن موضوع الخلافات المستعصية بين الطرفين، لذلك تقول الجزائر بأن زيارة وزير خارجيتها إلى طهران في هذا الوقت، والزيارات الأخرى التي تمت من قبل، إنما هي لتدعيم العلاقات الاقتصادية والتعاون في ملف الطاقة، وكذلك لتنسيق المواقف المشتركة للدولتين في ملفات أخرى، لكن هل هنالك منظور آخر من زاوية مختلفة، بناء على المعطيات الإقليمية الحالية، يمكن النظر من خلاله إلى زيارة الوزير الجزائري إلى طهران؟
لا شك في أن العلاقات بين الجزائر وإيران في هذه اللحظة هي جزء من علاقات المنظومة الإقليمية، ويبدو واضحا في الإقليم أن هنالك إعادة تقييم للعلاقات الثنائية والإقليمية والدولية، وهذا لا يقتصر فقط على الجزائر وطهران، بل يشمل السعودية والإمارات ومصر وتركيا، لذلك الشروع بإعادة الدفء إلى العلاقات الجزائرية الإيرانية، هو جزء من إعادة تقييم المواقف لمعظم الدول، وما نشهده في السنوات الثلاث الأخيرة هو ما نراه الآن في سياسة جزائرية أكثر ديناميكية ومنخرطة في العديد من الملفات، وهي اليوم تنفض عن حركتها غبار انكفائها في السنوات العشر الأخيرة. ولذلك تبدو أكثر جرأة وأكثر استعدادا للانخراط في الملفات الكبرى، لكن زيادة زخم هذا التوجه يتطلب من صانع القرار السياسي الجزائري أن يُدرك، أن العلاقات الجزائرية المغربية مهمة للغاية، لأن قطع العلاقات بين البلدين يؤثر بشكل مباشر في الديناميكيات الجزائرية، ويحد من انطلاقتها إلى مديات أوسع، خاصة أنها تسعى لدور جديد تحاول أن تلعبه في الإقليم والعالم أيضا. كما أن الاستعصاء السياسي بين البلدين سيرتب على الجزائر كُلفا سياسية وأمنية يجب أن تتحملها، لكن السؤال المهم هو، هل التلاقي بين الجزائر وطهران دافعه التحركات والترتيبات الإقليمية الأخيرة فقط؟ أم أنه يمكن القول بأن توجه البلدين نحو تعزيز علاقاتهما، له ارتباط بالصراع الدائر اليوم بين موسكو والمنظومة الغربية في ظل الحرب في أوكرانيا؟ لا شك في أن الكثير من المراقبين تفاجاؤا بطبيعة العلاقات بين الجزائر وروسيا، وكانت زيارة الرئيس الجزائري إلى موسكو استثمارا روسيا مهما، في إيصال رسالة إلى المنظومة الافريقية والإقليمية والدولية، بأن الجزائر باتت حليفا استراتيجيا لروسيا، واللافت للنظر هنا أيضا هو أنه في ضوء تلك الزيارة، فقد أتصل الرئيس الأمريكي جو بايدن بنظيره الجزائري، من أجل السعي لعدم تدهور العلاقات الأمريكية الجزائرية باعتبارها علاقات تاريخية، ما يؤكد أن الرسالة الروسية قد وصلت. لذلك يمكن القول بأن العلاقات الجزائرية الإيرانية، إضافة إلى أنها جزء لا يتجزأ من إعادة صياغة سياسة إقليمية ودولية جزائرية جديدة، فإنها أيضا مرتبطة بملف الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث يتلاقى الموقفان الجزائري والإيراني منها.
يبدو واضحا أن صانع القرار السياسي الجزائري اليوم، يحاول أن يقود بلاده وفق سياسات تعتمد القيم نفسها، التي كانت سائدة في السياسة الجزائرية في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم. سياسات لا تساوم على مواقف الجزائر بغض النظر عمّن يقودها، لذلك نجد موقفها من القضية الفلسطينية، هو الموقف نفسه آنذاك والمنسجم مع إرثها التاريخي، كما تحاول اتخاذ موقف وسط من الصراعات الدولية الحالية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل ستنجح الجزائر في حصد ثمار سياساتها هذه؟ أم أنها ستجد نفسها في مواجهة قوى مختلفة تعارض تلك السياسات؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية