مسار التطبيع السعودي-الإسرائيلي قد بدأ، لكن وتيرته وسرعة إنجازه غير محددة، وقد لا تتحقق على ساعة لاعبي الاتفاق، ولا سيما اللاعب الأمريكي.
تجهدُ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتحقيق إنجاز يُمكن أن تصفه بـ«التاريخي» يتمثّل بتوصّل المملكة العربية السعودية وإسرائيل إلى «اتفاقية سلام» ستُعيد رسم الخرائط في منطقة الشرق الأوسط على وقع التحوّلات الجيوسياسية الحاصلة، والتي ستُولد من رَحِمِها معالم النظام العالمي الجديد. كان هذا «العنوان» هو المحفِّز الأساسي للقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في نيويورك، وهو اللقاء الأوّل بين الرجلين منذ أن نهجَ الأخير طريق اليمين المتطرِّف لتشكيل حكومته. فإعادة بناء التوازنات في الشرق الأوسط، ومن ضمنها إنجاز «الممرّ الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي» المنافس لمبادرة «الحزام والطريق» الصينية تتطلّب نجاح الوساطة الأمريكية في التوصّل إلى «اتفاق التطبيع» والذي سيُجيِّره بايدن لصالح رصيده في استحقاق الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024 وهو ما سبق أن فعله سلفه دونالد ترامب بإنجاز ما عُرف بـ«اتفاقات أبراهام» التي طبَّعت العلاقات بين إسرائيل وكلٍ من الإمارات، والبحرين، والسودان، والمغرب.
وفي يوم لقاء نيويورك، خرج ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ليُعلن عبر شاشة «فوكس نيوز» الأمريكية أنَّ المملكة «تقترب كل يوم أكثر فأكثر» من تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وفيما شكَّلت في وقت سابق موافقة السعودية على عبور الطيران الإسرائيلي فوق أراضيها إشارة إيجابية، بَـدَتْ زيارة وزير السياحة الإسرائيلي حاييم كاتس إلى الرياض – وهي الأولى لوزير إسرائيلي للمشاركة مؤتمر منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة الذي انعقد في 26 أيلول/سبتمبر من الشهر الماضي – خطوة في هذا الاتجاه.
على أنَّ مسار التطبيع صعبٌ، وطريقه شائكة وربما تكون طويلة، وإنْ كان وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين تحدَّث عن احتمال التوصُّل إلى مرحلة يتمُّ فيها الانتهاء من تفاصيل الاتفاق في الربع الأول من العام 2024. فرغم حماسة نتنياهو لـ«صياغة سلام تاريخيّ بين إسرائيل والمملكة بما يُسهم بإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي وتحقيق المصالحة بين العالم الإسلامي والدولة اليهودية، ودفع السلام الحقيقي بين إسرائيل والفلسطينيين» فإن ثمَّة خطواتٍ كبرى على الضفّتين الإسرائيلية والأمريكية لا بدَّ من اتخاذها من أجل تحقيق هدف «التطبيع الكامل» أو بالحدود التي يمكن معها للسعودية أن تذهب إلى توقيع اتفاق «التحوّلات التاريخية».
فمطالب الرياض مُعلنة، ويتعلّق شقٌّ منها باتفاقات سعودية-أمريكية، في مقدمها توقيع معاهدة دفاعية تلتزم بموجبها الولايات المتحدة الدفاع عن السعودية أمام أي تهديد عسكري، على غرار البند الخامس في معاهدة «حلف الناتو» وتزويد المملكة بأسلحة أمريكية متطوّرة وأنظمة دفاعية مضادة للصواريخ الباليستية، وهي التي سبق أن تعرَّضت لهجمات على منشآتها النفطية بواجهة حوثية تقف إيران من خلفها، دون أن تجد نصيراً من حليفتها الأمريكية (حتى في زمن ترامب) ولا من القوى العظمى، رغم أن استهداف منشآت الطاقة السعودية مسألة لا تتعلق بالأمن القومي السعودي فقط بل بأمن الطاقة العالمي. وتُريد الرياض موافقة واشنطن وإشرافها على بناء مفاعل نووي مدنيّ، وتخصيب اليورانيوم على أراضيها. هذه المطالب السعودية يجري- وفق الأمريكيين – التباحث حولها، ويتمُّ تسجيل تقدُّم حيالها، من دون أن يعني ذلك أن لا صعوبات وعقبات أمامها ولا سيما أنَّ أي اتفاقية دفاعية تتطلب موافقة الكونغرس بمجلسيه لا تبدو ميسَّرة راهناً، وليس مطلب «النووي السعودي» أقل صعوبة، ولا سيما أنَّ أصواتاً إسرائيلية بدأت بالتحذير من حصول المملكة على قدرات نووية ولو سلميّة.
أما المطالب على الضفة الإسرائيلية، فإن المملكة التي طرحت أيام الملك عبد الله مبادرة السلام العربية في قمة بيروت لا ترى إمكانية سلام في المنطقة من دون القضية الفلسطينية، التي قال ابن سلمان «إنها مهمّة ويجب حلُّها». تؤكد أوساط فلسطينية أن هناك تنسيقاً مع السعودية فيما يتعلق بمترتبات الحل المقبول؛ لكن ما يتوقف عنده مراقبون هو أن ولي العهد السعودي اكتفى بالحديث عن «تحسين حياة الفلسطينيين»، تاركاً لوزير خارجية بلاده فيصل بن فرحان أن يقول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إن الرياض تتوقّع أن تشمل أي اتفاقات في المنطقة إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.
صحيح أنَّ نتنياهو أقرَّ بوجوب أن يكون الفلسطينيون جزءاً من الاتفاق المنشود مع السعودية، لكنه أردف كلامه، ومن على منبر الأمم المتحدة، بأنه «لا ينبغي أن يكون لهم حقّ النقض عليه» وذلك في تعزيز لإستراتيجية الفصل بين السلام الإسرائيلي – العربي والسلام الإسرائيلي-الفلسطيني. سمعَ نتنياهو من بايدن أنه سيكون من الضروري أن تُقدِمَ إسرائيل على خطوات لمصلحة الفلسطينيين للمضي قدماً في أي اتفاق مع السعودية، لكن الرئيس الأمريكي تحدَّث قبل الاجتماع عن «حماية الطريق إلى حل الدولتين» بمعنى ضرورة الحفاظ على بقائه نظرياً من دون إعلان وثيقة الوفاة لقيام دولة فلسطينية.
لا تحمل قراءة متابعين أمريكيين وعرب وإسرائيليين أي تفاؤل أو أمل في إمكانية تحقيق إقامة الدولة الفلسطينية بحدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية، ولا سيما في ظل الحكومة الحالية التي يتحكَّم بها اليمين المتطرِّف. وجلّ ما يمكن أن يُقدِّمه هو «تحسين حياة الفلسطينيين»، وهو رهان قد يُصيب، في حال تكلَّل درب المطالب السعودية من الحليف الأمريكي بنجاح كليّ أو حتى بنجاح جزئيّ، بحيث يمكن للمملكة أن توظفه في حماية أمنها القومي ومشروعها الاقتصادي وتعزيز دورها وموقعها الإستراتيجي في المنطقة وفي توازنات التكتلات الدولية.
يمكن القول إن إرهاصات التطبيع السعودي-الإسرائيلي تتشكَّل يوماً بعد يوم، وإن مساره قد بدأ، لكن وتيرته وسرعة إنجازه غير محددة، وقد لا تتحقق على ساعة لاعبي الاتفاق، ولا سيما اللاعب الأمريكي، كما أن اللاعبين المتضررين في الإقليم، من إيران وحلفائها في الداخل الفلسطيني وفي الساحات المفتوحة في المنطقة إلى الداخل الإسرائيلي، لم يكشفوا بعد أوراقهم وطبيعة ردّهم ومدى قدراتهم على كبح جماح تلك الاندفاعة، تماماً كما هو وضع اللاعبَين الصينيّ والروسيّ، خصوصاً أن خطوة واشنطن تستهدف، فيما تستهدف، الحدّ من النفوذ الصيني المتمدّد في المنطقة.