مقتل جورج فلويد، الأمريكي الأسود، بطريقة قاسية؛ استفزت العواطف، وأثارت غضب الشارع الأمريكي، من السود والبيض على حد سواء، في تظاهرات صاخبة عمت العديد من الولايات والمدن الأمريكية. إن هذه الحالة هي ليست الحالة الوحيدة بل سبقتها مئات إن لن نقل الآلاف منها، ولكنها، كانت الأقسى والأشد شراسة وعنصرية وحقدا.
الانقسام العميق في المجتمع
هذه الحالة عكست الانقسام العميق في المجتمع الأمريكي، والظلم، وانعدام المساواة، والعدل في ظل النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة الأمريكية.
إن العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن وليدة اليوم، بل إنها موجودة في المجتمع الأمريكي، تاريخيا، ولم تزل إلى الآن، لها وجود بالفعل في النفوس والعقول، تحت غطاء سميك من الليبرالية الحديثة. (في عام 1964، ألغي الفصل العنصري، في إدارة جون كينيدي. في عام 1965 منح حق التصويت للأفارقة الأمريكيين في إدارة جونسون).
مقتل جورج فلويد قد عرى النظام الرأسمالي، وجرد النظام من منصة حقوق الإنسان التي طالما تشدق بها، باعتباره الحامي والمدافع عن هذه الحقوق في أركان المعمورة.
مقتل فلويد، وبالطريقة التي شاهدها الناس على ظهر الكوكب؛ أظهر بربرية ووحشية الأسلوب الذي يتبعه البعض من أفراد وضباط الشرطة الأمريكية في إلقاء القبض على الخارجين عن قانون الأمن وحفظ النظام، مهما كان نوع ومستوى ودرجة الجرم الذي اقترفه، لا يمكن أن يقوم ضابط الشرطة الأمريكي هذا بما قام به، إلا إذا كانت في نفسه، قوة فعل شريرة، لا تعتبر الأسود، إنسانا. فعل ما فعل، متسلحا، بالضد النوعي للضمير؛ من القسوة، والصلابة، والثبات في استمرار زيادة القوة، بمواصلة الضغط بركبتيه على رقبة الضحية، حتى الموت.
الضحية كان مطروحا على الأرض، ولم تكن هناك حاجة لجعله؛ يختنق تحت ضغط الركب، ولم يعد بمقدوره التنفس، يستنجد في لحظة يأس بقاتله؛ من فضلك، أريد أن أتنفس، لا يرفع القاتل ركبتيه بل يزيدها ضغطا.
إن هذه العنصرية، وهذا التوحش، لم يكن وليد اليوم، أو في هذه السنوات الأخيرة التي تشهد في الغرب وأمريكا، صعود الشعبوية والعنصرية، وتصدر رموزهما، المشهد السياسي.
إن العنصرية، وحس التفوق، والشعور بالمكانة والمكان المتعاليين؛ كل ذلك موجود في النفوس وبالذات في نفوس الأفراد، من الأصول الأنكلو سكسونية، والبقية القادمين كمهاجرين من الغرب الأوروبي، لكنها مدفونة تحت غطاء الليبرالية السميك، الذي لم تجد في فضاءاته، مخارج لها في الخروج إلى العلن، ظلت حبيسة في النفوس أو في الحيز المعتم من النفس، كما أنها أي العنصرية، وحس التفوق، مستقرة في مكان قصي من العقل، وبعيدة عن ملموسات الواقع، لكنها، من الجهة الثانية، وكما أشرنا لها الآن، موجودة، وجودا فعليا في المجتمع الأمريكي الأبيض، وحصريا، المهاجرين من أوروبا.
تندفع بقوة إرادة الشر والعنصرية وعقدة التفوق من الدواخل المظلمة، في النفس والعقل، لرجل الشرطة الأبيض، كما حدث لفلويد من عملية قتل، تشمئز منها النفس، ويجرمها العقل السوي. اللافت للانتباه؛ أن جميع حالات القتل من هذا النوع التي حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية، كان الضحايا تقريبا جميعهم من السود، والبقية القليلة، من الذين طحنهم الفقر، من الآسيويين، ومن الأمريكيين اللاتينيين، وحتى من بيض أوروبا الفقراء، في أقوى اقتصاد في العالم.
في الجانب الثاني، كانت تظاهرات في أغلب المدن والولايات في الجنوب الأمريكي، رفضا وإدانة لهذه العنصرية ، وهي لم تزل مستمرة إلى الآن على الرغم من استخدام القوة بشكل أو بآخر لإيقافها في المدن والولايات الأمريكية، بالإضافة إلى أغلب العواصم الأوروبية، في لندن وباريس وفي غيرهما.
التظاهرات ربما تتواصل لأشهر مقبلة، بفعل تداخل مسببات تفجيرها، بين تراكم الاحتقان الذي سببه الظلم والقهر والقتل للأفارقة الأمريكيين واستثمار الديمقراطيين لها.
إن هناك انقساما في المجتمع الأمريكي، وهو انقسام حاد وعميق، ليس بين العنصرية ورافضيها في الضفة الأخرى المقابلة على أهميتها، لكن هناك عوامل فاعلة للانقسام في المجتمع الأمريكي، على قاعدة واسعة من الشعور بالظلم، الصراع بين العنصرية ونقيضها، واحدة من أعمدة هذه القاعدة، وليس جميع الأعمدة.
كتلة مهمشة
الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية، تقل فيها مساحة فرص التطور، أمام القسم الكبير من الشعب الأمريكي وبالذات السود الذين يشكلون ثاني أكبر عرق بعد البيض، في المجتمع الأمريكي، في ظل النظام الرأسمالي. مما خلق كتلة مجتمعية تعيش على الهامش، وتقل إلى حد كبير، أمامها، فرص التعليم، بالمقارنة مع البيض، وتعيش في غيتوات منعزلة عن الأحياء الراقية، وعن المدنية، وعن الرفاهية الأمريكية، تعشش فيها الجريمة والمخدرات والدعارة، مهددين في كل أزمة اقتصادية أو ركود اقتصادي بفقدان عملهم ومن ثم بالنتيجة من فقدان حتى مساكنهم، إن طال زمن الأزمة الاقتصادية، ويلقى بهم في العراء، في المتنزهات، ومحطات المترو.
تعرض الاقتصاد الأمريكي إلى خسائر كبيرة جدا بفعل الفيروس المجنح وانهيار أسعار النفط، مما تسبب في زيادة كبيرة في البطالة، التي زادت تراكم الاحتقان في النفوس، وبالذات في الولايات التي تسكنها أغلبية من أصول افريقية، ولايات الجنوب الأمريكي، ومن أصول أخرى. الحزب الديمقراطي ينتشر في هذه الولايات أو أن هذه الولايات هي خزان الأصوات الكبير للحزب الديمقراطي. التظاهرات جلها؛ خرجت من هذه الولايات والمدن. أغلب إن لم نقل جميع حكام هذه الولايات، من الحزب الديمقراطي، فقد كانوا عناصر تأجيج لهذه التظاهرات لحسابات انتخابية، وليس حبا وتأييدا للعدل ومحاربة الظلم والقهر، ودعما للمتظاهرين، ومناصرة لهم ضد جلاديهم، وقاتليهم.
هذا لا يعني تبرئة الجانب الثاني، بل العكس هو الصحيح إلى حد ما.. ترامب والحزب الجمهوري، أكثر سوءا من الديمقراطيين، كلاهما ورقة واحدة بوجهين، كُتب عليهما بمعيار واحد، وبحبر وحروف مختلفة.
إن أبشع ما في الديمقراطية الأمريكية، استخدام ما يتعرض له الناس في الولايات المتحدة الأمريكية، من ظلم وسحق لآدميتهم، كأوراق انتخابية، بلا نية في خطة عمل منتج، يحفظ لهم إنسانيتهم، وكرامتهم، ويقتص لهم من قاهريهم، وقاتليهم.
جريمة مقتل فلويد كانت الشرارة التي فجرت بارود الاحتقان من الظلم، والعيش على حافة الحياة، للقسم الكبير من المجتمع الأمريكي، المهددين في أي لحظة، بالسقوط في هاوية العوز والحاجة. في الصدد، من المهم الإشارة إلى أن قسما غير قليل من النخب الأمريكية، ضد هذه السياسة بل يقاتلون بالكلمة والقلم في تقليص مساحة التأثير لهذه السياسة، على الوعي الجمعي الأمريكي، وعلى الرأي العام سواء في الولايات المتحدة الأمريكية او في بقية مساحة وزوايا الكرة الأرضية. لكن عددهم قليل ومنابرهم غير فعالة لجهة السعة والانتشار، بفعل التضييق عليها، وتطويقها بجدران الإعلام الأمريكي المؤسساتي، الذي لا يسمع عبرها الصوت إلا صوتها. مما يؤدي في المحصلة إلى زيادة سعة، وفاعلية، وآفاق التأثير السلبي، على خطابها المنصف، والتنويري، والعادل، والذي يفضح جرائم الولايات المتحدة في الاقتصاد، وفي السياسة، في الداخل الأمريكي، وعلى ظهر الكوكب.
كاتب عراقي