تختلف نظرة الجزائريين إلى تونس عن نظرتهم إلى سائر البلدان الأخرى، والعكس صحيح أيضا، فالعلاقات التاريخية التي نسجها القدامى تتعزز اليوم بتوافد مليوني سائح جزائري على تونس سنويا. بهذه الخلفية يرقب التونسيون ما يجري في الجارة الغربية باهتمام كبير وحذر أكبر. ما من شك في كونهم يتعاطفون مع مطلب التداول السلمي، الذي رفعه المتظاهرون في سائر المدن الجزائرية، وقد عبروا عن ذلك التعاطف في مناسبات عدة، إلا أن جرعته تكاد تكون محسوبة.
نهاية الخطوط الحمراء
مع مناخ حرية التعبير المُتاح للتونسيين منذ الاطاحة بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (2011)، لم تعد هناك خطوط حمراء لدى التعليق على ما يجري في البلدان العربية الأخرى، بما فيها السعودية وباقي دول الخليج. أما الجزائر فشأن آخر، إذ نكاد نرى تطابقا بين الموقفين الرسمي والشعبي، قاسمُهُ المشترك هو المحافظة على مسافة من الأحداث الجزائرية، وتفادي كل ما يمكن أن يُفهم على أنه انحشارٌ في الشأن الداخلي.
بهذا المعنى يتجاسر كثير من السياسيين والإعلاميين في تونس على انتقاد الأوضاع في بلدان عربية عدة، لكنك تشعر أن الجميع تقريبا ملتزمون بنوع من مدونة سلوك غير مكتوبة لدى الحديث عن الأوضاع الراهنة في الجزائر، فهم يتمنون أن يتمخض الحراك الشعبي عن إطلاق مسار انتقال ديمقراطي سلمي، أسوة بالتجربة التونسية، مع خوفهم في الوقت نفسه من حدوث انزلاقات تُعيد البلد إلى مناخات الصراع الأهلي العنيف، التي اكتوى الجزائريون بلظاه في تسعينات القرن الماضي، وكانت له تداعيات سلبية على الاقليم بأسره.
ثلاث ميزات
من هنا يمكن أن نلحظ ثلاث ميزات في الحراك الجزائري حازت على إعجاب التونسيين، حسب فئاتهم الاجتماعية، أولها كسر ما يوصف بـ”حاجز الخوف”، وهو الحاجز الذي جعل السلطات الجزائرية تنجح على مدى خمس سنوات في إجهاض أية حركة احتجاج جماهيرية، وخاصة في العاصمة الجزائر. أما الثانية فهي الطابع السلمي للتظاهرات، التي تُذكر بثورة القرنفل البرتغالية (1975) أو الثورة البرتقالية في أوكرانيا (2004)، فضلا عن ثورة الياسمين التونسية في 2011. ورأى التونسيون أن سلمية التظاهرات تدلُ على درجة متقدمة من المسؤولية، ليس فقط لدى المتظاهرين، وإنما أيضا لدى السلطات التي احتوت الحراك وسايرته من دون الوصول إلى الصدام مع الشارع. والميزة الثالثة هي الدور المحوري للشباب الذي تبوأ الصفوف الأولى من الحراك، ما شكل قاسما مشتركا مع الحراك التونسي. ويُعزى اندفاع الشباب الجزائري نحو الشارع إلى تدهور وضعه الاجتماعي، فنسبة البطالة التي تُراوح بين 10 و13 في المئة في المتوسط، تصل لدى الشباب إلى 26 في المئة، وفي صفوف خريجي الجامعات إلى 18 في المئة، طبقا لمعهد الاحصاء الجزائري. واستطرادا حذق هؤلاء الشباب المتمردون استخدام الميديا الجديدة فحولوها إلى حلبة للتجييش ضد السلطات. وفي هذا السياق برزت أيقونات من بينها المدونة هند، التي دعت على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى تظاهرة نسائية أول من أمس الجمعة، لمناسبة العيد العالمي للمرأة، ما يُعيد إلى الذاكرة الدور المشابه الذي لعبته فتيات تونسيات في 2011 لعل أشهرهُن المُدونة لينا بن مهني.
يبدو الجزائريون الذين حرروا الشارع وكسروا الحواجز النفسية، وكأنهم يأخذون ثأرهم من الصمت الذي فُرض عليهم على مدى عشرين عاما، أي منذ الولاية الأولى للرئيس بوتفليقة. لكنهم يفعلون ذلك دوما من دون مغالاة ولا عنف ولا تشدُد، حتى أن الشعارات التقليدية لتنظيمات الاسلام السياسي لم تبرز على شاشة التظاهرات الجماهيرية في الجزائر، تماما مثلما كان الشأن قبل ذلك في تونس، حيث لم يُلاحظ حضور للملتحين أو المحجبات في تظاهرات “ثورة الياسمين” أو “ثورة الحرية والكرامة”.
زوايا متعددة
تنظر فئات تونسية أخرى، من ضمنها المثقفون والخبراء، إلى ما يجري في الجزائر من منظار مختلف، واضعين في المقدمة الأسباب الاقتصادية، وبخاصة تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية، ما جعل الدولة الجزائرية عاجزة عن تلبية المطالب المهنية وشراء السلام الاجتماعي بواسطة الترفيع من الرواتب أو إغداق العلاوات. وكانت الجزائر أبصرت وضعا مماثلا في 1988 غداة التراجع الكبير في عائدات الغاز والنفط، ما اعتُبر عنصرا حاسما في اندلاع أكبر تظاهرات ضد دولة الحزب الواحد، والتي مهدت لإقرار التعددية السياسية وإجراء أول انتخابات حرة وشفافة منذ الاستقلال.
أيا كان سبب انفجار الغضب الشعبي اليوم، فالثابت أن الجزائريين استوعبوا الدروس العربية الأليمة في كل من سوريا وليبيا واليمن، وهم حريصون حرصا كبيرا على تفادي أي جنوح إلى العنف، مُقتبسين من تجربة التعايش التي استطاع جيرانهم التونسيون بفضلها أن يتجنبوا الانزلاق إلى هوة الحرب الأهلية في 2013، ويحصدون جائزة نوبل للسلام. بهذا المعنى يمكن الحديث عن جدلية التفاعل بين التجربتين الجزائرية والتونسية على أكثر من صعيد، ولاسيما اعتبار التنازل المتبادل قاعدة للنأي بالبلد عن المزيد من التجاذبات والصراعات، وتكريس المصالحة بين الدولة من جهة والمجتمع ونخبه المختلفة من جهة ثانية.
بطاقة انتساب
لا تقتصر بواعث هذا التواصل النادر بين تونس والجزائر على هاجس البحث عن البراغماتية في التعاطي مع أنظمة متكلسة، وإنما هو تواصلٌ يغرف من عمق التاريخ، إذ يعود إلى فترة إقبال أعلام جزائريين على الدراسة في تونس على أيام الاحتلال الفرنسي، وخاصة منهم من درسوا في جامعة الزيتونة، أسوة برئيس جمعية العلماء الجزائريين الشيخ عبد الحميد بن باديس ونائبه الشيخ بشير الابراهيمي، والرئيس الراحل هواري بومدين وصولا إلى الشاعر مفدي زكرياء والروائية أحلام مستغانمي. وفي أحد الاجتماعات التي أقيمت في تونس لإحياء ذكرى شهداء الغارة الفرنسية على قرية ساقية سيدي يوسف التونسية الحدودية، أخرج أمين عام حزب “جبهة التحرير الوطني” آنذاك محمد الشريف مساعدية من جيبه بطاقة انتساب إلى “الحزب الحر الدستوري” التونسي كان حصل عليها لدى انخراطه في الحزب العام 1947.
الواضح أن هذه العلاقات الخاصة اتخذت أبعادا أشمل مع توافد مئات الآلاف من الجزائريين على تونس، وهو البلد الوحيد تقريبا، مع تركيا، الذي لا يُطالبهم بتأشيرات، ما ساعد ربما على متابعة الحراك التونسي واقتباس كثير من الأفكار… من سلبياته وإيجابياته.