كانت إحدى القضايا الرئيسية التي أثارها المعلم البرازيلي باولو فريري هو عدم التعامل مع أطفال المدارس وطلاب الجامعات كأوعية فارغة يملأها المعلم بالطريقة نفسها التي نودع بها الأموال في حسابات البنوك.
وأصر فريري على عدم حيادية التعليم بقوله: “التعليم لا يكون محايداً، إما أن يكون تعليماً للحرية، أو تعليماً للاستعباد”، وانتقد بشدة ثقافة الصمت التي تفرز وضعية القهر، والتي مصدرها: الجهل أو التعليم، فالنظام الاجتماعي الفقير ولد نوعا من التربية القهرية ومهمة المتعلم، والإنسان عند فريري، تحطيم المشكلات والتناقضات التي يحيا فيها والعمل على تغيير واقعه.
الثورة على الواقع
التعليم بحد ذاته ثورة على الواقع ونسف السائد، مما يخلق الإبداع، وإلا فما الفائدة من الثورة على الواقع الذي فرضه نظام مستبد بالجانب التعليمي وحشو المناهج بمنطلقاته ونظرياته، وبعد أن ثار الشعب السوري عليه لا نريد بالجانب التعليمي بالعودة لما سبق وفرض الإذعان على الطلبة والطاعة العمياء والخوف من الحرية والثورة، والتي تمنحه الإبداع بتمرده على الواقع وهنا تكمن المشكلة في التعليم المستكين الذي لا يسمح بالخروج عن سلطته وأعرافه.
وقد قسم باولو فريري قبل عقود التعليم إلى قسمين: التعليم المعلب والتعليم الحواري، التعليم المعلب، هو الذي يهدف إلى إنتاج موظفين عند السلطة وليس إنتاج المعرفة، وقد سعى نظام الأسد لتعليب التعليم وجعله مجانيا، ليس من أجل أن يكون هذا التعليم منتجا للمعرفة ومشاركا في تطور البلاد ونهضتها، بل كان يهدف من ذلك التعليم على إنتاج موظفين عند سلطته يمن عليهم بمجانيته ودعمه والمشاركة في تبرير بقائه في السلطة.
فالطالب يقضي جل عمره في المدرسة والجامعة مستمعا لما يتلى عليه دون تعليمه أي آليات نقدية أو اختلافات في الآراء، والتعيينات في الهيئات الإدارية والتدريسية يكون أساسها الولاء والطاعة للسلطة الأمنية وليس المعرفية، فقد يكون هناك أستاذ مبدع معرفيا لكنه غير منتم لمنهجية السلطة فيتم إبعاده، وآخر ضعيف معرفيا لكنه يحقق الشروط الحزبية المطلوب فيتم تعيينه، فالمطلوب من التعليم ليس إنتاج المعرفة بل دعم السلطة والمحافظة على بقائها، وبالتالي تحول المعلمون إلى أدوات تصفق للسلطة.
تعليم المقهورين
وتحدث باولو فريري في كتابه “تعليم المقهورين” عن الثورة كعمل يمارسه المقهور من أجل تجاوز ظروف القهر واكتساب حريته والمقهورين في الثورة يواجهون القاهرين الذين لا يريدون لهم أن يتحرروا بل يريدون لهم أن يتعايشوا مع قهر النظام المستبد ويعتبروها قدرا.
ويرى فريري أن الثورة بهذا المفهوم ليست منحة يقدمها القادة للأفراد، وهو لا ينكر بذلك أهمية الدور الذي تقوم به القيادة في الثورة في توجيه الجماهير للإحساس بظروف القهر غير أن القيادة التي تحاول أن تفرض رؤيتها وفكرها على الناس دون أن تشاركهم فكرهم محكوم عليها بالفشل لأنها بنظره ليست قيادة ثورية وإنما هي بديل متسلط، يحل محل المستبد القاهر وتفتقر إلى ثقة الجماهير به.
فكيف يستطيع الشعب المقهور والذي تم تجهيله وتقليل وعيه بماهية حقوقه وواجباته،
دون أن تساهم سلطة تمثله في توفير تعليم يستهدف تحريره؟
فالتعليم القائم على التلقين والتحفيظ يقوم به معلم يملي على التلاميذ محتوى قصته كمُسلمة غير قابلة للنقد والطالب المستمع مستقبل معلومات دون أن يتعمق في مضمونها وتحويل الطلبة إلى بنوك يقوم الأساتذة بدور المودعين، وأن التعليم الحق قوامه بناء العقل النقدي والمستمر في البحث عن المعرفة من أجل اكتساب الحرية وهو ليس منحة يتفضل بها تجار العلم على الطلبة الذي يفترض أنهم لا يعرفونها ويكرس استغلالهم معرفيا وماديا.
تسليع التعليم في الشمال السوري يفتح شهية التجار والمالكين والمروجين الدعائيين للمدارس والجامعات العامة والخاصة، وكل من يجد فرصة للتجارة في هذه المنظومة لكي يأتي بابتكارات متنامية لزيادة الربح، وهكذا تزايدت متطلبات التعليم المالية بوتيرة مضطردة، وأصبح الفقير مطرودا من دائرة التعليم الجيد، هذا في حين أن التعليم الجيد حق للجميع، يشمل ذلك الحق الطالب والمجتمع بصورة عامة، لأن التنمية البشرية التي بها نهوض البلاد وتقدمها، تعتمد على التعليم المجاني الجيد، ولا ينبغي إطلاقا أن يكون التعليم سلعة باهظة الثمن، يشتريها المقتدر، ويتركها غير المقتدر.
فالجامعات الخاصة وكذلك المدارس الخاصة، تعمل على تسليع التعليم مقابل المال، وبذلك يصبح التعليم سلعة والبائع معلم والمشتري طالب، وهنا تكمن المصيبة عندما يباع العلم لمن يقدر ويحرم منه من لا يستطيع، وهذا يؤدي لمرض المجتمع وتحصل نتائج كارثية نتيجة هذا التسليع وشراء الشهادات.
فتجار التعليم لم يعملوا على استخدام التعليم كنهج لتعليم المقهورين وأداة لتحرير العقل السوري، بل عمدوا على تسليعه واستخدامه كأداة لتحصيل المال وتطويع العقل النقدي وبقاء النهج التلقيني ممهدا للجهل واستعمار العقل بشهادة حفظ كرتونية وإجازة نسيان علمية.
كل التربويين يجمعون أن الاستثمار في التعليم هو الاستثمار الناجح، ويكون في الإنسان، باعتباره هو اللبنة الحقيقية في بناء البلاد وتقدمها، ولكن في الشمال السوري جرى استثماره وفق مقياس استثماره كمسلمة رابحة وبالتالي جعلوا من التعليم سبيلا لنماء الأموال، فظهرت مصطلحات وممارسات تنسجم مع هذه التوجهات الربحية.
ويعد تسليع التربية والتعليم أحد هذه المفاهيم، ووجد أصحاب المال التربية أرضية خصبة لاستنباته في الشمال السوري وبالتالي تحول التعليم من رسالة إلى سلعة، تخضع لقانون العرض والطلب، ويستطيع البعض الحصول عليها بينما يعجز الكثير عن ذلك، وتتعرض العملية التعليمية إلى الغش كأي سلعة أخرى، ويتم تسويقها والترويج لها بأساليب شتى وعبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن مظاهر انتشار التسليع التعليمي، زيادة عدد المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة واعتمادها على مناهج دراسية مستوردة ومعدة مسبقا، وازدياد أعداد البحوث التربوية والرسائل الجامعية؛ لنيل درجة علمية، أو ترقية وظيفية، فيما محاضراتها وامتحاناتها سواء كانت أونلاين أو بشكل فيزيائي تخضع أحيانا للعرض والطلب والمساومة، وبات النظر إلى التعليم على أنه ترف يلبي رغبة الطلبة الأغنياء في الحصول على الشهادة، والكسب السريع، وبالتالي إضعاف تكافؤ الفرص التعليمية؛ لأن الخدمة تقدم لمن يملك المال وليس القدرة العلمية.
ولعل أبرز مظاهر تسليع التعليم نظرة الطلبة إليها على أنها وسيلة مختصرة للتعليم، وفتح شهية تجار التعليم لتكوين أرصدة مالية، واستقالة الكثير من المعلمين من التعليم في المدارس العامة، وتهاونهم في أداء واجباتهم داخل الصفوف المدرسية، وإرهاق ميزانية الأسرة، وتهديد مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية، لأن معظم من يلجأ إلى التعليم الخاص هم من ذوي المستويات الاقتصادية المرتفعة، ويُحرم منها كثير من أبناء الفقراء، وإضعاف احترام الطلبة لمعلميهم، والحط من قيمة المعلمين وإضعاف قيمة المدرسة وتقليل احترام الطلبة لنظامها العام.
والتحدي الأكبر في تسليع التعليم تعامل سلطات الأمر الواقع في الشمال السوري مع التعليم كاستثمار ولم تفرق تلك السلطات وتجار التعليم بين الاستثمار والتسليع، فالاستثمار تقديم تعليم منافس لتخريج كفاءات سويتها العلمية أعلى من خريجي المدارس العامة وقادرة على إنتاج أفكار جديدة تخدم البلاد.
بينما التسليع هو تحويل التعليم إلى سلعة ربحية وقابلة للعرض والطلب، ومن رسالة سامية إلى سلعة تجارية وبضاعة استهلاكية تباع وتشترى، وبذلك يصبح الهدف من التعليم هو تحقيق الربح المادي، ويجعل من التعليم مادة لا يحصل عليها إلا من يقدر على دفع ثمنها، وبذلك يسود النظام السلعي بين المعلم والمتعلّم، فلا يُقدم أي طرف خدمة إلى الطرف الآخر إلا مقابل ثمن.
كاتب سوري