التغيير آت رغم قتامة الصورة

حجم الخط
0

أكثر ما يثير الغضب، أو على الأقل غضبي، هو المصطلحات والتعبيرات في تلك البيانات التي تصدر عن فصيل فلسطيني، أو تجمع فصائل وتنظيمات، أو مسؤولين فلسطينيين، ليس الغرض منها توجيه رسالة ما، كما يتوقع من أي بيان أو تصريح، وإنما كلمات وتعبيرات، الهدف منها إثبات الوجود فحسب، أنا أصدر بيانا فأنا موجود، تعبيرات تعود بصيغها ومصطلحاتها إلى خمسينيات القرن الماضي، تعبيرات وبيانات لا تخرج عن سياق التمنيات والتهديدات الفارغة، غير القابلة للتصديق في بعض الأحيان، مصطلحات تجعلك تظن أن الزمن توقف عند هؤلاء منذ عقود طويلة.
من هذه البيانات التي تندرج في قائمة البيانات الأكثر إثارة للغضب والاستفزاز لمشاعر القراء والمستمعين إليها، بيان صدر قبل أكثر من أسبوع عن «قيادة القوى الوطنية والإسلامية»، وهي من اسمها تضم فصائل فلسطينية مختلفة من داخل منظمة التحرير ومن خارجها، وتحديدا حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، اللتين تنتظران انتخابات المجلس الوطني، كي تنضما إلى منظمة التحرير، أو السيطرة عليها، خاصة من جانب حماس، ونأتي بهذا البيان على سبيل المثال لا الحصر. فماذا جاء في البيان «الميمون» وبماذا أغنى القضية الفلسطينية وبما أفادها.
فلنأخذ الفقرة الأولى من هذا البيان التي تقول «حذرت قيادة القوى الوطنية والإسلامية، من دعوات المستوطنين لتنفيذ اقتحامات جماعية للمسجد الأقصى، بمناسبة حلول أحد الأعياد اليهودية (عيد الأنوار)». بالمناسبة هذه دعوات متكررة. السؤال هو: هل التحذير من الخطوة نفسها، أي اقتحامات المستوطنين للأقصى وانعكاساتها وتداعياتها؟ أم أن التحذير من غضب هذه القيادة، ورد فعلها على هذه الخطوة، وما يمكن أن تفعله.

ليس هناك بداية انطلاق جديد أفضل من انتفاضة تبدأ من الداخل الفلسطيني وتمتد إلى خارجه

وإذا كان التحذير من غضب القيادة ورد فعلها، فينطبق عليه قول الشاعر «زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا، أبشر بطول سلامة يا مربع»، فهذا ليس أول التهديدات ولا آخرها، ولن يحرك هذا التجمع ساكنا بالنسبة لدولة الاحتلال، التي تعلم جيدا أن من بوسعه أن يفعل لا يهدد ولا يتوعد.
اما إذا كان التحذير من انعكاسات اقتحامات المستوطنين وتداعياتها، ولفت الانتباه إلى خطورتها، من أجل العمل على وقفها، أو وضع حد لها، فاعتقد أن التحذير جاء متأخرا جدا. فأولى قبلتي المسلمين وثالث حرميهم الشريفين، الذي يشكك «باحثون ورجال دين سعوديون» وكذلك الروائي المصري يوسف زيدان وغيره بقدسيته، مقسم زمانيا منذ فترة، وتحت سمع وبصر الجهات ذات الاختصاص، في الأردن وفلسطين. فالمستوطنون يعيثون فسادا في مسرى الرسول وباحات مسجده منذ سنوات، ولا حياة لمن تنادي، بعدما أصبحت الاقتحامات على مدى خمسة أيام في الأسبوع، أمرا مألوفا ولا تثير غضب، حتى كاتبي هذا البيان، نعم أصبحت أمرا مألوفا بعدما تخلى عنه الجميع، وأخص بالذكر الجهات الرسمية في الأردن وفلسطين. الأردن لأنه صاحب السيادة على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وهو الذي يفترض أن يتصدى لأي تغيير على الوضع القائم سابقا وليس الآن. والسلطة الفلسطينية من باب أن القدس هي عاصمة الدولة العتيدة والأقصى درة تاجها، وهم من يقولون، لا دولة فلسطينية من دون القدس، ولا قدس من غير الأقصى، أضف إلى ذلك أنه تقع على السلطة مهمة تحريك الشارع الفلسطيني لمواجهة التغييرات، التي يحاول العدو فرضها كأمر واقع في الحرم القدسي خصوصا، والقدس عموما، التي تعمل دولة الاحتلال من أجل إحكام الطوق عليها وفصلها عن محيطها الفلسطيني، سواء بالمستوطنات أو الجدران. وها هي دولة الاحتلال تعود مجددا إلى تحريك قضية هدم قرية الخان الأحمر إلى الشرق من القدس، في خطوة لإحكام السيطرة عليها وخنقها من جميع الجهات. فما أنتم فاعلون يا أعضاء قيادة القوى الوطنية والإسلامية. وللتذكير فقط فإن ما يزيد عن 29 ألف مستوطن اقتحموا المسجد الأقصى خلال عام 2019، وذلك حسب إحصائيات دائرة الأوقاف الإسلامية وشؤون المسجد الأقصى، والآتي اعظم. وحسب الشيخ عزام الخطيب مدير عام دائرة الأوقاف الإسلامية، فإن الاقتحامات كما العادة جرت بحماية قوات الاحتلال، معتبرا أن هذه الانتهاكات تشكل «مساساً بالوضع التاريخي والقانوني القائم في المسجد الأقصى المبارك، كمسجد إسلامي للمسلمين وحدهم».
الجملة الثانية في البيان «وأكدت (طبعا القوى) أن هذه الأفعال هدفها جر المنطقة إلى «حرب دينية». فهل هناك حقا وجود لمثل هذا التهديد، وما هي المؤشرات إلى وجود خطر من وقوع حرب دينية؟ أم أن الأمر لا يتجاوز كونه تحذيرا فارغا غير قائم على أساس، وكما يقول المثل «لو بدها تمطر، غيمت»، وحتى لو افترضنا جدلا أن مخاطر هذه الحرب موجودة، فلما نحذر منها، فلندعها تقع طالما نحن عاجزين عن الحفاظ وحماية مقدساتنا. ولكن دولة الاحتلال تعلم جيدا أن تحذيراتنا مجرد فقاعات، وكما تهديداتنا فارغة، وقد قالتها غولدا مائير بعد حرق المسجد الأقصى «عندما أحرق المسجد الأقصى لم أنم الليل، كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجا، وعندما أشرقت شمس اليوم التالي، أدركت أن بوسعنا عمل أي شيء نريده، فنحن أمام أمة نائمة». وإذا كان هذا هو رأي حكام إسرائيل بنا قبل نحو خمسين عاما، أي بعد أن حرق يهودي استرالي المصلى المرواني في الأقصى، وكان لا يزال ما يسمى، النفس الثوري العربي والمد القومي في أوجه، فما هي القاعدة التي تتعامل على أساسها معنا دولة الاحتلال، في زمن الانحطاط العربي، وزمن المحمدين بن زايد وبن سلمان، زمن الربيع العربي الذي تحول إلى خريف بل شتاء قاتم.
في زمن أصبح العديد من الأنظمة العربية يهرول نحو التطبيع مع إسرائيل، في زمن يستخدم فيه نتنياهو هذه الاتصالات مادة ضد منافسيه في الانتخابات العامة، في زمن تحولت فيه دولة الاحتلال إلى دولة صديقة، يستقبل مسؤولوها في العواصم العربية أو لنقل العواصم الخليجية، بترحيب لا يحظى به غيرهم، في زمن يتواصل فيه مواطنون خليجيون وسعوديون، على وجه الخصوص، هاتفيًا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، في زمن يستقبل فيه سعوديون، وعلى عينك يا تاجر، وبالتأكيد بموافقة من النظام الجديد، يهودا وهم بالتأكيد رجال مخابرات في منازلهم في السعودية، في زمن تفتح وسائل إعلام عربية/ خليجية منابرها أمام أشخاص يشككون في قدسية القضية الفلسطينية وأولويتها، في زمن أصبحت فيها شتيمة الفلسطينيين كشعب عموما، بأقذع الشتائم مقبولا، ومادة إعلامية متداولة، في زمن يقف فيه «إعلامي» سعودي ليقول إن الصلاة في مسجد في أوغندا أقدس من الصلاة في الأقصى، في زمن أصبح فيه العرب يرددون المصطلحات الإسرائيلية/ الأمريكية نفسها، أن القضية الفلسطينية لم تعد تتصدر قضايا المنطقة المصيرية الأخرى، في زمن أصبح فيه الحديث عن تحالفات جديدة وشرق أوسط جديد بقيادة دولة الاحتلال أمرا مقبولا، بل أمرا في طريقه للتطبيق.
ولكن ونحن ندخل عاما جديدا، بل عقد جديدا، نؤكد أن الصورة ليست بهذه القتامة التي تبدو عليها، فلم نفقد كل الأوراق، والميدان لن يترك لـ»المحمدين» وغيرهما، يصولون ويجولون ويحددون سياسات المنطقة. وأن ثمة نورا في آخر النفق، وأن فجرا جديدا لا بد آت. وستثبت هذه الأمة خطأ استنتاجات غولدا مائير قبل نحو خمسين عاما، وأننا حقا لسنا أمة نائمة، وأمة لن تسمح للأمم الأخرى بالضحك من جهلها.
وحتى يتحقق ذلك فإن على الفلسطينيين وما تبقى لهم من أصدقاء وحلفاء وهم كثر أن يمسكوا بزمام المبادرة بإعادة ترتيب الأوراق إعلاميا وسياسيا وأسلوب مقاومة، وبناء سد منيع في وجه هذه الأنظمة الهشة أصلا، استعدادا للانتقال من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، في تصديهم لهذه الأنظمة وسياساتها، وليس هناك بداية انطلاق جديد أفضل من انتفاضة تبدأ من الداخل الفلسطيني وتمتد إلى خارجه. وبذلك اختتم.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية