التغيير بين ثورة بنغلاديش واضطرابات بريطانيا

في مجال الأمن والاستقرار السياسي ليس هناك نظام حكم يمكن أن يكون بمنأى عن التحديات الداخلية خصوصا الاحتجاجات سواء السياسية أو المتعلقة بالقضايا المعيشية. وهناك رغبة جامحة مختزنة في نفوس الشعوب للتغيير، تتصاعد هذه الرغبة وقت الأزمات خصوصا ما يرتبط منها بحياة البشر أمنيا أو اقتصاديا.
وتفرض الظروف على الفئات الراغبة في التغيير أنماطا من الحراك لتحقيق ذلك. حتى في ظل الأنظمة «الديمقراطية» لا تخلو الساحة من توجهات نحو التغيير. في هذه الأنظمة تعمل المعارضة بشكل مشروع في ظل النظام القائم، ولكنها لا تخفي رغبتها في «إسقاط الحكومة» بالطرق الديمقراطية وذلك بتحقيق أغلبية في المجالس المنتخبة أو بتحالفات حزبية. هنا لا يعتبر «إسقاط الحكومة» جرمًا يُعاقَب عليه من يطرحه، بل يُعتبر حقا مشروعا للكتل الحزبية المنتخبة. ولكنّ توفر الوسائل البرلمانية لا يلغي توجه البعض لاستخدام وسائل أخرى تستهدف الحكم حتى لو كانت خارج الأطر القانونية. فحق الاحتجاج السلمي مكفول في أغلب دساتير الدول، ولكن نادرا ما يؤدي الاحتجاج السلمي للتغيير، أو أنه يحتاج لوقت طويل لا يستطيع دعاة التغيير انتظاره. ولذلك كثيرا ما تتحول الاحتجاجات السلمية إلى أعمال شغب وعنف وقد تزهق فيها أرواح. والملاحظ أن انتشار التطرف والعصبية والعنصرية مرتبط بشكل النظام الحاكم وسياساته وأنماط تعامله مع مواطنيه. ومن يرغب في إقامة مجتمعات مستقرة ومتطورة ومتفاهمة فإنه مطالَب بلغة سياسية ميسّرة وتعامل داخلي ينطوي على قدر من الرّحمة والرّأفة والإنسانية. كما يتطلب شعور رجاله الأقوياء بأنهم ليسوا أباطرة، بل مواطنون يبحثون عما هو خير لأوطانهم وشعوبهم.
في الأسبوع الماضي شهد العالم أنماطا لهذه المقولات. وكان أبرزها ثورة شعب بنغلاديش التي أسقطت حكومة الشيخة حسينة. وأمام زخم الاحتجاجات الشعبية التي شهدت نزول الملايين إلى الشوارع ضد سياسات الدولة والأوضاع المعيشية الصعبة، لم يكن أمام رئيسة الوزراء المنتخبة إلا الإذعان لطلب الجماهير وترك المنصب. هذا البلد الذي ارتسمت صورته في أذهان الكثيرين بالفقر تارة والفيضانات المدمّرة تارة أخرى، هو الذي أنجب شخصية علمية عملاقة كالبروفيسور محمد يونس الذي كُلّف مؤخرا بتشكيل حكومة انتقالية. ويونس هذا عالم رياضيات حاز على جائزة نوبل في الاقتصاد المالي ومؤسس بنك للفقراء باسم «جرامين» الذي يفترض أن لا يعمل بالفائدة على الإيداعات. فمنذ شهرين شهدت البلاد احتجاجات بدأت بالطلاب الذين تحركوا احتجاجا على ارتفاع الأسعار وضآلة فرص العمل، ولم تكن تلك الاحتجاجات في بداياتها تهدد حكم الشيخة حسينة. الغريب في الأمر أن الجيش لعب دورا محوريا في التغيير. فقد رفض تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على المسيرات السلمية العملاقة، ثم تدخّل لخلع رئيسة الوزراء والسيطرة على الدولة حتى إشعار آخر. وبرغم ضآلة الثروات الاقتصادية لدى بنغلاديش فإن موقعها القريب من الصين جعلها ذات أهمية خاصة للولايات المتحدة الأمريكية التي كان لها دور في التغيير السياسي.
ومع أن الشيخة حسينة التي قضت 14 عاما في منصبها كانت تمثل حزب رابطة عوامي، إلا أنها في السنوات الأخيرة لم تستطع مواكبة تطلعات شعبها خصوصا الطبقة الشابة التي تتطلع لحياة مهنية أفضل. ولكن مهما قيل عن بنغلاديش فإنها تعتبر متطورة مقارنة ببعض دول المنطقة خصوصا باكستان. فلديها نمو اقتصادي سريع ويعتبر معدل الدخل بالنسبة لعدد السكان أعلى من بقية المجاورة ولديها بنية تحتية جيدة وصناعة متميزة في مجال الأقمشة. وليس معلوما إلى أين تتجه بوصلة المسار السياسي في هذا البلد الكبير، ولكن المتوقع أن تتوجه أوضاعه نحو الاستقرار خصوصا مع وجود يونس على رأس الحكومة الانتقالية. والأمل أن يؤدي نظام الاقتراع الديمقراطي لذلك برغم وجود بعض التنظيمات المتطرفة التي تمارس العنف.

ليس هناك نظام حكم يمكن أن يكون بمنأى عن التحديات الداخلية خصوصا الاحتجاجات سواء السياسية أو المتعلقة بالقضايا المعيشية

أما النمط الثاني في الفضاء السياسي فتمثله الاحتجاجات التي انطلقت في بريطانيا مؤخرا احتجاجا على مقتل ثلاث فتيات بمنطقة ساوثبورت. المؤلم في هذه الاحتجاجات أنها اشتعلت بعد انتشار خبر كاذب بأن القاتل شاب مسلم، بينما اتضح أنه ينحدر من أبوين مسيحيين هاجرا إلى بريطانيا من رواندا. استهدفت الاحتجاجات في بدايتها بعض المحلات والمساجد الإسلامية، ثم تحوّلت إلى أعمال شغب نجم عنها نهب بعض المحلات التجارية. وخلال هذه الاحتجاجات استهدفت عناصر اليمين المتطرف رجال الشرطة ومراكزهم، ونسي المحتجون أنهم خرجوا للتعبير عن حزنهم لمقتل الفتيات، وأن عليهم مراعاة مشاعر عائلاتهن التي فجعت بفقدهن. وهذا النمط من الاحتجاج لا يؤدي لتغيير سياسي، بل يلطّخ سمعة البلد الذي تحدث فيه، فالنهب والسلب والسرقة والعنف ضد المؤسسات الرسمية والجهات المخوّلة بضمان تطبيق القانون لا يمثل حالة حضارية، بل يعكس تخلّفا معنويا وتراجعا في الأخلاق والقيم. ومن الصعب تحديد المسؤولية عن تدني مستوى الالتزام الأخلاقي والإنساني لدى فئة من البشر تخرج من أجل التخريب والتدمير، ولا تنطلق بأجندات إصلاحية. فكيف نشأت هذه الثقافة؟ وهل يمكن فصلها عما يحدث أحيانا في الدورات الرياضية؟ فقد عرف «المشجّعون» البريطانيون بارتكاب أعمال عنف وشغب، وأصبحت الدول الأوروبية تقلق عندما يصل إلى أراضيها عشرات الآلاف من المشجّعين البريطانيين.
إن انتشار ظاهرة العنف والتخريب والنهب على مستوى جماهيري يتطلب اهتماما خاصا من السلطات البريطانية لأنها تقضي على وشائج الأخوة والتماسك الاجتماعي، وتحوّل الشاب إلى عنصر تخريب لا يفيد نفسه أو بلده شيئا. فإذا كانت هناك رغبة في التغيير في بلد يتمتع بقدر من الديمقراطية والتمثيل الشعبي في صناعة القرار، فالحكمة تقتضي تفعيل تلك الوسائل. أما الشغب والتخريب فلا يحققان الهدف المنشود. وحتى لو لم تكن هناك ثقة في الأجهزة القائمة فإن تدميرها لا يخدم الأمن الاجتماعي.
أما التغيير الذي يتم على أيدي العسكر فقد يكون مطلوبا في حالات محدودة لتجنيب البلاد مخاطر الحرب الأهلية أو الإفلاس أو إزالة شبح الاستبداد والديكتاتورية. ولكنه ليس حلّا لأزمات البلدان. فالعسكر الماسك بزمام الأمور في بنغلاديش سيواجه أخطارا كثيرة خصوصا أن سقوط حكومة الشيخة حسينة إنما كان نتيجة الحراك الجماهيري الهائل الذي انطلق بعنوان التغيير واستطاع إلحاق الهزيمة برئيسة الوزراء التي لم تجد مخرجا سوى الفرار من البلاد.
إن التغيير حاجة ملحّة في المجتمعات، ففي ذلك مواكبة للتطورات الاجتماعية والسياسية وسواها، وفيه تجاوز للسلبيات وسدٌّ للثغرات، وإصلاحٌ للفاسد من القوانين والممارسات. والسؤال يدور حول أساليب الوصول إلى هذا التغيير. فالعالم العربي بشكل عام يعاني من شيخوخة أنظمته السياسية وعجز بعضها عن مواكبة التطورات من جهة وتطلعات المواطنين من جهة ثانية. وليس من الحكمة تجاهل هذه التطلعات التي عبّرت عنها الشعوب العربية بثورات ما سمّي «الربيع العربي» قبل أكثر من ثلاثة عشر عاما. فلكي يتم منع تكرر ما حدث آنذاك يقتضي الأمر التفكير الجاد في أنماط من التمثيل السياسي للجماهير توفّر لها الشعور بممارسة حقها في الشراكة السياسية وتقطع الطرق على محاولات التمرد واللجوء لأساليب العنف والعصيان. وهناك أنظمة سياسية عربية استبقت شعوبها ومنحتها شراكة سياسية أوّلية قابلة للتوسيع والتطوير. أما الأنظمة التي أصرّت على تجاهل الدعوات للإصلاح السياسي فقد تحوّلت تدريجيا نحو المزيد من الاستبداد والقمع، وأصبحت سجونها مكتظة بمعتقلي الرأي المطالبين بالإصلاح السياسي. وهذه ظاهرة غير إيجابية لا تساهم في تثبيت دعائم الأمن والاستقرار، بل تدفع للتدخلات الخارجية التي تضاعف الأزمات الداخلية وتجعلها مستعصية على الحلول الميسّرة وتجهض ثقافة التفاهم والحوار والتشاور.
في الفضاء السياسي والاجتماعي لا تجدي لغة التعنّت والتصلّب في المواقف، بل أن مصلحة الجميع تقتضي توافق الفرقاء وليس سعي أحدهم لحسم الموقف بالقوة والغلبة. فبإمكان الحاكم توسيع سجونه لاستقبال المزيد من معارضيه، ولكن ما جدوى ذلك؟ وما الثقافة التي تنتشر في المجتمعات التي يقضي مواطنوها عقودا وراء القضبان؟ ظواهر عديدة تميّز هذه المجتمعات: الحقد، الانتقام، الأنانية، التطرف، انعدام الأمن والظنون السيئة المتبادلة بين الفرقاء.

كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية