للقمع وسائل كثيرة، وللتمرد وسائل أكثر، بعضها مسلح مدمر يصيب كل الأطراف بخسائر فادحة، والبعض الآخر يتخذ الشكل ‘السلمي’، كالذي اعتمدته الثورة المصرية، في مرحلتها الأولى منذ البداية خلال الأعوام الأخيرة من عهد مبارك، والذي يبدو حتى الآن أنه هو المنهج الذي تعتمد عليه مرحلتها الثانية، لكنه بالفعل أشد خطورة على من يوجه ضده هذا النوع من التمرد، وأكثر أثرا من التظاهر الذي لا يسبقه تمهيد يثبت حجم الرفض الحقيقي لنظام الحكم. فمن وجهة نظر الكثيرين؛ نظام الإخوان الحالي ليس أكثر من امتداد لنظام مبارك، أو هو مرحلة ثانية منه، من دون اختلاف سوى في الشعارات الدينية التي يرفعها الإخوان لخداع المصريين، لكن في باطنه يعتمد نفس المنهج الذي اساسه التضليل والكذب المغلفين بالقمع الأمني والإرهاب المنظم، ومن حسن حظ المصريين أنه، على ما يبدو حتى الآن، فالصراع العنيف ليس منهجا تعترف به المعارضة أو تسعى إليه، حفاظا على البلاد من الفوضى والدماء، بقدر ما تنتهجه الجماعة الحاكمة وميليشياتها ضد المتظاهرين الذين خرج بعضهم عن المألوف كرد فعل لتوحش الإخوان وتغولهم، وهذا النوع العنيف من التمرد هو ما نريد الهرب منه، فالتاريخ يعرض لنا منه نماذج عديدة لا يسرنا بالطبع أن يصبح لدينا أحدها، وذلك على الرغم من جدواها أحيانا. ومن أهم هذه التجارب التي أحدثت تغييرا تبعه استقرار ضد النظم القمعية، التجربة الكوبية المسلحة، ففي كانون الثاني/يناير من عام 1958، تمكن المتمردون الكوبيون من دخول العاصمة الكوبية هافانا، بعد ان أمضوا عامين من التمرد المسلح الذي انتهج فيه فيدل كاسترو ورجاله، الذين كان بينهم المناضل الأشهر تشي ارنستو جيفارا، منهج حرب العصابات ضد نظام لفولجنسيو باتيستا العسكري المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية واستخباراتها، وبالفعل سقط نظام باتيستا يوم الثامن من يناير بعد فراره إلى البرتغال، التي اصبحت منفاه في ما بعد، خلال هذه الفترة تكبدت قوات المتمردين التي اتخذت من جبال سييرا مايسترا مركزا لها، خسائر كبيرة، في نفس الوقت الذي نجحت فيه بتوجيه ضربات موجعة إلى نظام باتيستا، فمع كل مكسب كانت هناك خسائر مؤلمة، وهذه هي طبيعة الصراعات المسلحة، فالمنتصر فيها أيضا يُمنى ببعض الألم. والذي يلعب دور الداعم المساند لهذه النظم الكريهة والبعيدة عن شعوبها، يطاله أيضا بعض الخسائر، كل حسب موقفه أثناء وبعد الصراعات، ما لم يتدارك الصالح سريعا ويتعامل مع الموقف سريعا بشك أكثر ملاءمة، بعض هذه الخسائر التي تمنى بها الإدارات المساندة للنظم القمعية تكون فورية، وبعضها خسائر مستقبلية، فالولايات المتحدة التي ساندت نظام باتيستا لم تحظى جراء الثورة الكوبية بخسائر فورية فحسب، بل نالت من الخسائر اللاحقة، ما قد يكون أكثر فداحة من تلك النقود الأمريكية التي خسرها الاستثمار الأمريكي بكوبا، جراء انتصار التمرد الكوبي، الذي اخذ شكل ثورة شعبية، وأكثر أثرا أيضا من فقد هذا الحليف المستبد باتيستا، فمنذ نجاح المتمردون الكوبيون كرست الولايات المتحدة جزءا كبيرا من امكانياتها وامكانيات أجهزتها للقضاء على النظام الوليد، الذي ولد حاملا الملامح والسمات الشيوعية، التي تعد ألد أنواع النظم كرها إلى قلب الإدارة الامريكية. وهو موقف قد تكون تعلمت منه الولايات المتحدة في ما بعد إبان ثورات الربيع العربي، فتعاملت مع الموقف بالمرونة اللازمة للخروج بأقل الخسائر، خاصة ان معظم محاولات الولايات المتحدة ضد النظام الكوبي باءت بالفشل، وعلنا نتذكر الهزيمة المنكرة لها في ما يعرف بعملية ‘خليج الخنازير’ أو حتى في محاولاتها العديدة لاغتيال كاسترو. كذلك فالتمرد المسلح قد يمنى بالفشل إذا ما واجه نظاما مدعوما بقوة ولديه من القدرة العسكرية ما يمكنه من الصمود فترة طويلة، إلى جانب المساندة الدولية له من بعض الدول، التي لها ثقل لا يمكن الاستهانة به كما يحدث في سورية الآن، فالمقاومة المسلحة لا يمكن توقع رد الفعل الدولي تجاهها، فقد يكون مساندا أو العكس. ومن هنا تبدو لنا الخطورة وراء ما يعرف بالتمرد ‘السلمي’ فلا يوجد مبرر أخلاقي يجعل من المجتمع الدولي يتخذ موقفا معارضا لها، فالنضال السلمي حق معترف به لا غبار أخلاقي عليه وهو بالطبع آخر ما يهم الغرب – على عكس المسلح، فالمنهج السلمي يشبه اليد التي تزيل الغطاء من فوق كل ما هو كريه داخل هذه النظم التي يوجه ضدها، لذلك فانزعاج الإخوان من حملة ‘تمرد’ التي تهدف إلى سحب الثقة من الرئيس مرسي، ليس انزعاجا ناتجا عن قدرة الحملة على سحب الثقة بشكل فعلي من ‘الرئيس’ عضو الجماعة المحظورة ‘سابقا’ والجماعة الحاكمة حاليا، فبالفعل ليس لدى الحملة القدرة الفعلية على اجبار مرسي على ترك منصبه، من خلال جمع هذه التوقيعات فقط، فالأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك، يحتاج إلى تحرك شعبي قوي ضد الإخوان يفوق ما لدى الإخوان من تحرك نعرفه بالحشد الإخواني ‘الوهمي’ المضاد الذي تُجمع له الشاحنات من كافة أنحاء الجمهورية، كما يحتاج إلى تخلي الغرب، خاصة الولايات المتحدة عن نظام الإخوان، كما تخلت عن نظام مبارك من قبل، كل ذلك بالإضافة إلى دعم المؤسسة العسكرية بدورها. لكن الخوف الحقيقي لدى الإخوان من نجاح هذه الحملة يرجع إلى كونها قد تمتلك القدرة على ‘تعرية’ الإخوان وفضح شعبيتهم التي تناقصت في الداخل والخارج، مما قد يسبب حرجا بالغا للإخوان أمام المجتمع الدولي، الذي تحاول الجماعة اقناعه بان شعبيتها مازالت متماسكة، بل أن ما يواجهها من معارضة لا تمثل سوى جزء أقل من الضئيل في المجتمع المصـــــري، بل من وجهة النظر الإخوانية ‘المضللة’ التي تحاول بهــــا اقناع المجتمعين الدولي والمحلي، أن هذه المعارضة ليست إلا معارضة مأجورة تهدف إلى تعطيل مسيرة ‘النهضة’ المزعومة، وإلى القضاء على الإنجازات الإخوانية التي لا نرى ولا نسمع عنها سوى ‘الكذبات’ المتلاحقة، التي يروجها الإخوان وأنصارهم. والتفوق الذي منيت به التجربة الجديدة التي تحمل اسم ‘تمرد’ فاق بمراحل ما نالته التجربة السابقة للجمعية الوطنية للتغيير ضد مبارك، فحجم التوقيعات لتمرد في تزايد مستمر وتلقى قبولا واسعا لدى معظم فئات الشعب المصري، على الرغم من تشويه الإخوان الممنهج للحملة وللقائمين عليها، وفي ظل التصيد الأمني لأعضائها، الذي يقوده وزير الداخلية الحالي اللواء محمد إبراهيم، الوزير الذي نجح في وضع خطة لتصيد المعارضة بينما فشل في وضع خطة لإعادة الاستقرار الأمني داخل البلاد، فمهمته كما ندرك جميعا واضحة، وهي سبب إتيان الإخوان به، ثم الإبقاء عليه رغم ما يواجهه من انتقادات لاذعة. حتى هنا فالإستراتيجية الجديدة ضد الإخوان تبدو قوية وناجحة بعض الشيء، خاصة إذا تطورت في ما بعد لما يخشاه الإخوان فعليا، وهو الدعم الجماهيري الملموس على أرض الواقع في تحرك ميداني ضد الجماعة بالشارع المصري، وهذا هو ما نحتاجه حتى تدرك طيور الظلام التي حلقت في سماء مصر وانقضت على ثورة شبابها، ومن قبلها المجتمع الدولي، الحجم الحقيقي للمتاجرين بالدين في سبيل السلطة والسياسة.