قامت فلسفة إنشاء صناديق سيادية على تحقيق هدف أساسي هو حفظ حقوق الأجيال القادمة في ثروات بلادهم الناضبة، خصوصا البترول والغاز والثروات الطبيعية غير المتجددة. ومنذ نشأتها اعتمدت على إعادة استثمار فائض هذه الثروات الناضبة في الخارج وليس في الاقتصاد المحلي. وقد استمر أمر تلك الصناديق على هذا النحو حتى العقد الأول تقريبا من القرن الحالي، ثم تعرضت لهزة كبيرة بعد ذلك. محركات تلك الهزة امتدت إلى عوامل اقتصادية وتكنولوجية وجيوسياسية في أواخر ذلك العقد، خصوصا بعد الأزمة الاقتصادية العالمية 2007 – 2008 والتغيرات التكنولوجية المؤدية إلى الثورة الصناعية الرابعة، ثم انفجار انتفاضات الربيع العربي التي هزت الأركان السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، خصوصا مع سقوط حكومات رئيسية، ووقوع بلدان مهمة في لهيب الصراع بين أجهزة الدولة وجماعات سياسية مسلحة، استطاع بعضها فعلا إسقاط الدولة القديمة أو تعطيل سلطتها إلى حد بعيد كما هو في اليمن ولبنان وسوريا وليبيا والسودان. ومع هذه التداعيات لانتفاضات «الربيع العربي» فقد تعاظمت أهمية تحقيق الاستقرار الاقتصادي بالدرجة الكافية للحيلولة دون وقوع فوضى سياسية واجتماعية واسعة النطاق تهدد أسس الاستقرار في الدول النفطية الخليجية، التي تعتمد على «مصادرة السياسة» كواحد من أركان تحقيق الاستقرار. ومع الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها مصر على وجه الخصوص فقد كان من الضروري أن تعمل معا الدول النفطية الغنية في الخليج من أجل توفير الحزمة الكافية والمستدامة من المساعدات الاقتصادية لتأمين الاستقرار الاقتصادي في مصر ودول أخرى مثل تونس والسودان واليمن، إلى جانب محاولات لإعادة تشكيل الأنظمة في سوريا والعراق ولبنان. ونظرا لأن حزم المساعدات المطلوبة كانت تتجاوز قدرات وطبيعة أهداف صناديق التنمية الإقليمية، خصوصا مع قيادة صندوق النقد الدولي لاستراتيجية «إصلاح اقتصادي» في المنطقة، فإن «الصناديق السيادية» بقوتها المالية الجبارة، وعلاقتها العضوية بصناع القرار السياسي، أصبحت الأداة الأكثر ملاءمة للقيام بدور إعادة تشكيل الملامح الاقتصادية الإقليمية بما يقيم توافقا مستداما بين سياسات دول المنطقة، خصوصا في المشرق العربي المليء بالصراعات الملتهبة.
الرؤى المستقبلية لتنويع الاقتصاد
لكن الاضطرابات الإقليمية وتداعيات انتفاضات الربيع العربي لم تكن المحرك الوحيد لتغيير أهداف ودور الصناديق السيادية في دول مجلس التعاون الخليجي، بل وفي المنطقة ككل، خصوصا مع نشأة صناديق استثمار جديدة في المنطقة تحت إسم «الصناديق السيادية» في دول ليس لديها فائض، بل تعاني من عجز. إلى جانب المحركات الإقليمية كانت هناك أيضا محركات أخرى، ذات طابع محلي وعالمي. وقد تمحورت المحركات المحلية حول رؤى اقتصادية جديدة تستهدف تنويع الاقتصاد استعدادا لعالم ما بعد النفط، خصوصا بعد اتفاقية الأمم المتحدة للمناخ، وانتشرت هذه الرؤى في البلدان العربية تحت عناوين مختلفة مثل رؤية 2030 في مصر وفي السعودية. إن الدول النفطية الغنية التي كانت قد انتهت تقريبا من إقامة قواعد البنية الأساسية المادية والاجتماعية الحديثة من طرق ومنشآت ومطارات وموانئ ومدارس وجامعات ومستشفيات، بدأت تشعر أن الطريق أصبح مفتوحا أمامها للانطلاق إلى المرحلة التالية من التنمية بإقامة مشاريع إنتاجية ضرورية لتوفير فرص العمل للمواطنين، وتقليل الاعتماد السلعي على الخارج، والدخول إلى مجالات تنافسية جديدة، بتقليل الاعتماد على الإيرادات النفطية، وخلق مصادر جديدة للتمويل. ومع أن القطاع الخاص كان قد حقق وحده انطلاقة كبيرة في مجالات غير نفطية، فإن وضع الرؤى المستقبلية موضع التنفيذ كان يحتاج إلى أداة تنموية جبارة تكون قادرة على تنفيذ مشروعات عملاقة تتكلف مليارات الدولارات، وهو ما لم يكن يتوفر إلا لعدد محدود جدا من شركات القطاع الخاص. الخطوة السليمة التي تم التقدم بها هنا هي ألا يكون الجهاز التنموي الجديد بديلا للقطاع الخاص، وإنما يعمل معه جنبا إلى جنب، أو يصبح شريكا معه. ونظرا لأن صناديق الاستثمار السيادية كانت تتمتع بموارد مالية ضخمة، فإنها أصبحت بقوة الأمر الواقع الذراع الاستثماري الجديد. وكان هذا يتطلب إعادة توجيه سياسات الاستثمار من الاقتصار على الاستثمار في الأسواق الخارجية للاستثمار في الأسواق المحلية كذلك، وأخذ أولويات التنمية المحلية في الاعتبار. ولم يقتصر التغيير على ذلك فقط بل أُضيف إليه العمل على إعادة توجيه الاستثمارات الخليجية حتى تكون متوافقة مع أولويات التنمية المالية وإشباع الحاجة إلى خلق ترابط بين سلاسل الإمدادات المحلية ومثيلاتها العالمية.
ومن هنا فإن قوة محركات العولمة والثورة التكنولوجية والانتقال من عصر الطاقة التقليدية إلى عصر الطاقة الخضراء والاقتصاد الأخضر (الصديق للبيئة) ساعدت على تصميم سياسة اقتصادية مدمجة ومتشابكة، لتكثيف الاستثمار في مشروعات التكنولوجيا الخضراء، خصوصا ذات الكثافة الرأسمالية العالية، حيث تتمتع الدول الخليجية الغنية بميزة نسبية في وفرة رأس المال. وسوف نلاحظ أن ذلك أدى عمليا إلى تنويع محافظ استثمار الصناديق السيادية من الاعتماد أساسا على الاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية وإيداع الأموال في البنوك أو التعامل في الأصول المالية عموما، إلى الدخول في استثمارات عينية مباشرة في الخارج، وإقامة مشروعات مشتركة في دول أخرى أو فيما بين الدول الخليجية وبعضها البعض. ومن خلال التفاعل بين أولويات التنمية المحلية وتشابك حلقات سلاسل القيمة العالمية (سلاسل الإمدادات) تقوم حاليا شركات مملوكة للصناديق السيادية الخليجية باستثمارات ضخمة في قطاعات استراتيجية على مستوى العالم، خصوصا في مجالات الصناعات البتروكيميائية، وصناعة النقل البحري، والطاقة الجديدة. ولا تقتصر أنشطة هذه الشركات جغرافيا على الدول الصناعية المتقدمة، بل على العكس من ذلك أصبحت الدول النامية الصاعدة مثل الصين والهند والدول النامية العربية مجالا أوسع لنشاط الشركات المملوكة للصناديق السيادية الخليجية. وفي المقابل فإن احتياجات تنويع الاقتصاد في دول مجلس التعاون الخليجي خلقت فرصا استثمارية كبيرة للدول الصناعية المتقدمة لتحويل نسبة متزايدة من التدفقات المالية إلى الدول الخليجية. وتشير خريطة التوزيع الجغرافي للصناديق السيادية الخليجية انتشارا ملحوظا على مستوى العالم ككل، مع وجود أولوية للاستثمار في دول قريبة مثل مصر وتركيا وسلطنة عمان، وكذلك في دول آسيوية مثل الصين والهند، بما يعزز قوة الترابط بينها، ويساعد أيضا على تحقيق أكبر قدر ممكن من تنويع الاقتصاد المحلي، وزيادة درجة الاستقرار السياسي الإقليمي، والانتقال إلى عصر النمو الأخضر. وفي هذا السياق تدخل الصناديق السيادية العربية فيما يمكن أن نطلق عليه «علاقات مصاهرة اقتصادية» للعمل في مشروعات مختلفة من أجل تحقيق أهداف مشتركة ضرورية للنفع المتبادل. وتقدم مصر في هذا السياق نموذجا فريدا، حيث تعمل شركات مملوكة للصناديق السيادية العربية في مختلف قطاعات النشاط الاقتصادي من أجل توفير أكبر قدر من الاستقرار الإقليمي، إيمانا منها بأن الاستقرار الاقتصادي في مصر هو وقود أساسي لتحقيق الاستقرار الإقليمي. وتسيطر على علاقات المصاهرة تلك نزعة تنافس شديد بين الإمارات والسعودية على اقتناص الفرص والفوز بصفقات ثمينة.
دور الاستثمار الخليجي في مصر
لعبت الصناديق السيادية الخليجية وعلى رأسها صناديق الإمارات والسعودية وقطر دورا رئيسيا في تمويل مشروعات التنمية العملاقة في مجالات الطاقة الجديدة والتكنولوجيا الخضراء، وكذلك في مجال الاستحواذ على الأصول الاستثمارية المملوكة للدولة بدءا من قطاع الفنادق والسياحة إلى قطاع الخدمات المالية مرورا بقطاع الصناعات التحويلية من الألومنيوم إلى الأسمدة. كما أنها تشارك أيضا بصورة ملحوظة في تمويل قطاعات العقارات والتجارة والخدمات اللوجستية. ونظرا لخطورة تأثير فجوات التمويل في مصر على الاستقرار الاقتصادي للمنطقة العربية ككل، فإن الصناديق السيادية المملوكة للدولة، ورأس المال الخليجي الخاص، لعبا دورا محوريا في عملية إنهاض الاقتصاد المصري من خلال تمويل فجوة البنية الأساسية في مجالات النقل والتخزين بما في ذلك الموانئ والمطارات والصوامع والسكك الحديد، وتمويل فجوة قطاع الطاقة وتكثيف الاستثمار في قطاع الطاقة الجديدة والمتجددة، وتمويل فجوة الأمن الغذائي من خلال إقامة مشروعات زراعية والاستحواذ على شركات متخصصة في هذا القطاع، إضافة إلى تمويل فجوة الإسكان العائلي والسياحي، وتمويل مشروعات الخدمات الاجتماعية الأساسية وعلى رأسها التعليم والصحة والتعليم العالي. وقد استحوذت مصر وحدها على نسبة 7 في المئة من الاستثمارات الخليجية الخارجية خلال الفترة من 2018 إلى 2022 في حين حصلت الهند على 42 في المئة، أي سبعة أضعاف ما حصلت عليه مصر. كذلك كانت مصر بمثابة نقطة جذب لالتزامات الاستثمار الأجنبي المباشر الكبيرة في السنوات الأخيرة، حيث اجتذبت 18 مشروعًا ضخمًا في العامين الأخيرين حتى كانون الأول/ديسمبر 2023. وفي الفترة ما بين 2013 و2022 قدمت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والكويت ما مجموعه 34 مليار دولار إلى مصر في شكل منح نقدية وشحنات نفط وودائع في البنك المركزي، وفقًا لبيانات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. وفي عام 2024 فقط تلقت مصر من الإمارات ما يزيد عن هذا المبلغ لإنجاز صفقة «رأس الحكمة». ثم تلتها السعودية بعد أشهر قليلة بتقديم تعهدات باستثمارات تصل إلى 15 مليار دولار ارتبطت بتوقيع اتفاقية لحماية الاستثمار من المخاطر غير التجارية، مع اتجاه لضخ مزيد من الاستثمارات عبر صفقات للاستحواذ والاكتتاب في الشركات والبنوك التي ستعرضها حكومة مصر للبيع في إطار برنامج بيع الأصول المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي.
استثمارات عملاقة في الخارج
وفي العام الماضي زاد تركيز الإمارات والسعودية على الاستثمار في مشروعات خارجية عملاقة (رأسمال المشروع يبلغ مليار دولار فأكثر). وبلغت تعهدات الاستثمار في المشروعات العملاقة 19 مليار دولار، بنسبة 78 في المئة من إجمالي التعهدات للعام نفسه. وقد استحوذت 6 مشروعات عملاقة فقط على هذا المبلغ، منها مشروع تموله الإمارات في الهند (تكنولوجيا خضراء) وآخر في المجال نفسه في إندونيسيا تموله المملكة السعودية، ومشروع بتروكيميائيات بتمويل سعودي في كوريا الجنوبية، ومشروع صناعي لأشباه الموصلات تموله الإمارات في سنغافورة، ومشروع فندقي تموله قطر في بريطانيا. وأخيرا مشروع ضخم للصناعات الغذائية تموله الإمارات في السعودية. وقد بلغت قيمة تدفقات الاستثمارات المباشرة من دول مجلس التعاون الخليجي إلى الخارج 24.7 مليار دولار في عام 2023 مقابل 6 مليارات فقط في العام السابق والذي قبله. هذه القفزة في قيمة الاستثمارات الخارجية كانت مدفوعة بزيادة الاستثمارات الخارجية من الإمارات بقيمة 10 مليارات دولار، ومن السعودية بقيمة 7.3 مليار دولار، ومن قطر بقيمة 1.2 مليار دولار. ومن الملاحظ أن الإمارات والسعودية وحدهما أسهمتا بنسبة 93 في المئة من الاستثمارات الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي في ذلك العام، وبإضافة قطر فإن النسبة ترتفع إلى 99 في المئة. وقد استحوذت قارة آسيا، وفيها الهند، على الحصة الأكبر من استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 75 في المئة من الإجمالي، تليها منطقة الشرق بنسبة 10 في المئة، وكانت مصر هي أكبر متلق للاستثمار. وتوزعت بقية الاستثمارات على دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 9 في المئة وأفريقيا 4 في المئة، وأمريكا اللاتينية ودول الكاريبي بنسبة 2 في المئة، وأخيرا الولايات المتحدة وكندا والمكسيك بنسبة تقل عن 1 في المئة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن دول أمريكا الشمالية تسهم وحدها بما يقرب من نصف تدفقات الاستثمارات الخارجية المباشرة إلى دول مجلس التعاون الخليجي. وهكذا فإنه ليس من المبالغة القول إن العديد الصناديق السيادية الخليجية تمثل أهم قاطرة للتنمية على المستويين المحلي والإقليمي، وأنها أيضا قاطرة رئيسية للتنمية في العالم.