الموضوع الذي سأتحدث عنه في هذه السطور موضوع قديم جديد منذ العقد الأخير تقريبا، يكاد لا يفارقنا، إنه موضوع التنمية البشرية. أما جديد الموضوع فربط التنمية البشرية بالتنمية الاقتصادية وعدم قبول تناول الأخير من دون سابقه في القادم من التحاليل.
الفكرة وردت في مقال صدر لمحمد رياض في صحيفة ‘الأهرام’ بتاريخ 25 .11 2013، وهو تاريخ بعيد نسبيا قياسا إلى تطور شؤون الساعة وشجونها، لكنه قريب جدا متى تصدينا لطرح أحد أكبر المسائل تنغيصا لصحة البلدان من كل الجوانب، اقتصاديا، تربويا، طبيا، ثقافيا، إشعاعيا وبالتالي سياسيا.
ففي سطور زميلنا نخوض في قراءة تذكّر من هم بحاجة إلى تذكير، وهم كثيرون، بإحد الثوابت التي على كل دراسة سوسيولوجية تحترم نفسها أن تتخذها دعامة وسندا لفحوصاتها، وهو التلازم العضوي بين التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية.
يمر ‘صحيح الاستخدام الإيجابي’ للتنمية الاقتصادية بالتنمية البشرية، يقول كاتب المقال- بشيء من الطنين والرنين.. لكن لا تنمية اقتصادية ولا بشرية يمكنها أن تتم من دون أن ترتبط أنماط المعيشة، التي تحدث عنها المقال، بظروف المعيشة ـ التي لم يتحدث عنها إلا عرضا، عند ذكر السكن الصحي واتصاله بمياه الشرب والصرف الصحي. فليس كافيا أن نعيب على سياسة التنمية البشرية لدولة ما أن تتناول المشاكل فرادى، منفصلة عن بعضها بعضا، من دون تقديم ولو ملامح سياسة تتخذ المعالجة الشاملة منطلقا لها. هذا، خاصة، لأنّ المقال يتضمن مقومات هذه السياسة الشاملة، فتضمينه التنمية البشرية مواضيع كثيرة، إقرار بارتباط التنمية بعدة عوامل تتفاعل مع بعضها بعضا، وهي التعليم ومحاربة الأمية والرعاية الصحية والاجتماعية. وعندما شدد زميلنا على ان الانفاق من الناتج المحلي العام مكرس لهذه المجالات الحيوية من صحة وطن، فحسنا فعل، لكننا وددنا لو ذهب صاحب المقال إلى أبعد من ذلك فركز على بروز هذه العوامل متضافرة لتفعيل استراتيجية تنموية معقلنة .
توقف صاحب المقال عند حد أن تكون التنمية الاقتصادية أبسط من التنمية البشرية. وهنا نسأل: لماذا أبسط؟ أيفهم من ذلك أن التنمية البشرية قد تكون أعقد من التنمية الاقتصادية؟ ما يتبادر إلى الأذهان بسيط فعلا، وهو أن الفكرة السائدة التي لا يسلم منها الكاتب، هي أن تسيير السياسة الاقتصادية الوطنية أقل كلفة وعناء من دعم التنمية البشرية، طالما التعاقد مع كبار المستثمرين وشركاتهم أيسر منالا للدولة من تقليص الفجوة بين الفقراء والأغنياء. والكاتب يقر ذلك، فالفارق بين الذين عندهم والذين ليس عندهم، على حدّ وصفه، يحتّم على الدولة أن تتكفل بتوفير فرص شغل لذوي الاختصاصات، أي من يدخلون في إطار ما يسميه صاحب المقال بنوع النشاط.
أما أن تختص مدن بنشاط رئيسي تستمد ديناميتها منه، فأمر لا يختلف فيه اثنان، لكن المؤسف أن يقف صاحب المقال عند وصف هذه النشاطات، من دون أن يحدثنا عن العلاقة التي يمكن أن تربط النشاط المعني بخطة تنموية تكون ركيزة من ركائز التنمية في المدينة المقصودة.
ايجاد إنسان يحس بآدميته في الحياة، هذه هي الدعوة التي يدعو الكاتب في نهاية المطاف إلى تحقيقها. وهي تندرج في نزعة ‘الأنسنة’ التي تحدث عنها الفلاسفة والمفكرون. لكن ما أحوجنا هنا إلى استحضار واحد من أكثر العناصر فعالية لتأسيس صرح يكون معيارا لتحقيق هكذا طموح. هذا المعيار، بل هذا المحكّ، هو مؤشر التنمية البشرية. ومن المدهش ألاّ نصادف، في مقال يجعل من التنمية البشرية مفصل طرحه، حديثا، ولو مقتضبا، عن هذه الأداة التي لا غنى عنها لقياس العوامل الثلاثة المرتبطة ببعضها بعضا عضويا لتحديد مستوى تقدم بلد وهي: مستوى التعليم والأمية، العمر المتوقع للمواطن، والمستوى المعيشي في البلد. إنها، صحيح، عوامل تطرق إليها كاتب المقال لكن تلميحا في أحايين كثيرة.
أما حديث واضح معلن عن مؤشر التنمية البشرية، لو تم في تلك السطور، لمكّننا من معاينة واقع عالمنا العربي انطلاقا من آخر مؤشّرات التنمية البشرية في تصنيف البلدان المعتمد وفق هذا المعيار، وهو يعود إلى سنة 2012. ولو تعمقنا بعض الشيء في هذا التصنيف، للاحظنا أن من بين البلدان العربية الـ14 التي دخلت التصنيف والسؤال هنا لماذا لم تدخل الـ9 الباقية، 6منها فقط نالت السهم باللون الأخضر الدال على ارتقاء في معدل التنمية البشرية بين عام و آخر. هذه البلدان هي: لبنان، سلطنة عمان، الجزائر، البحرين، الكويت وليبيا. وكان ممكنا هنا، أيضا، استغلال الفرصة لكتابة بعض السطور عن الخصوصيات الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية لهذه البلدان، علّنا بها نستشرف بعضا من ملامح هذه الحياة التي ادعى الشاعر ان الشعوب يوما ستريدها وأن قيودا من أجلها ستنكسر وقدرا سيستجيب.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي