أكيد أن التحولات المتسارعة اليوم ، المدفوعة أساسا ، بما هو اقتصادي وعلمي، تمتد لأشكال التفكير والمعرفة . وبالتالي، فالأدب ليس بمعزل عن ذلك. ومثلما أن هناك في العالم النامي عوامل ووضعيات موضوعية تحاصر الأدب وتطارده كالفقر والأمية وبرامج التربية والتعليم المتخلفة…هذا فضلا عن غياب المشاريع والاستراتيجيات . وفي المقابل ، هناك عوامل أخرى امتدت لكل جهات العالم وهي تلك التي تسعى لتنميط العالم استهلاكيا بالمعنى المتعدد للاستهلاك. هذا إضافة، إلى مؤثرات الصورة والوسائط التي تصنع الرأي على مقاسات معينة. الشيء الذي أدى إلى افتقاد العمق في الثقافة ، والأدب أيضا . أخشى هنا، أن يسقط الأدب في التسطيح والرغوة الزائلة. ويفقد أصله وجوهره في هذا الجاري.
يغلب ظني هنا، أن إكراه التواصل المعطوب على أكثر من صعيد: في الشارع، وفي المؤسسة الثقافية والسياسية، وفي الإعلام، أكيد أن هذا الحيف المركب اتجاه الكتابة، ينعكس على التلقي العام الذي يتقلص يوما عن يوم.
في نفس الآن، أطرح دائما هذا السؤال في الكثير من الأوراق التي كتبتها في هذا الشأن: ماذا لو اضطلعت القنوات والمؤسسات ـ بمختلف أشكالها ـ بأدوار حقيقية حول الأدب والثقافة ؟ . في انتظار ذلك، أعتبر أن وضعية الأدب الراهنة تتغذى بالسلب على أزمة القراءة الناتجة عن الاختلال البنيوي الذي يضع الثقافة في آخر الاهتمام والأولويات . لكن الأدب يكمن في ذاك العمق الذي لا يمكن بثره والتخلص منه ، لأنه يرتبط بكينونة اللغة والإنسان والمتخيل المشترك والخاص . وتحضرني هنا مقولة جميلة للشاعر ريلكه يقول فيها فكل منا يحب الشعر في العمق وليس بالضرورة أن يقرأه ، ففي ميسور الحب وحده أن يتناول العمل الأدبي وينصفه . وهنا أتساءل لماذا نأتي للأدب دون أعضائنا ؟.
سؤال الأدب في العمق ، هو سؤال الحياة في تموجاتها وجموحها ، الحياة التي لا تنام على اليقينيات والبديهيات التي تخلق تكلسات ، تغطي أحيانا على الجذور والمسام .
في ظل وضعية تواصلية معطوبة ، لا بد من القيام بأدوار ظلت غائبة ومغيبة ، فعلى المبدع أن يخرج من انتظارية المجتمع القاتلة ، لتقديم شيء ما للأدب في الإيصال والدفاع عن هذه المساحة الطاوية على حرية أكبر، وتخيل أبعد في المجتمع والحياة . نفس الأمر بالنسبة للمؤسسة الثقافية التي ينبغي أن تكون معبرا حقيقيا للأدب، وليس لشيء آخر غدا سخيفا ومقيتا، والسعي إلى خلق شروط صحية للكتابة مثلما للقراءة. فمتى سارت الكتابة والقراءة في تواز ، يمكن الاطمئنان بالقول إن الأدب آت متربعا في مجراه الخاص ، وبكامل زمنه الذي لن يتخلى عن جوهره ويذوب في خطابات ذات تهيكلات على الأرض . فزمن الأدب لصيق بالكينونة الإنسانية وتمفصلاتها الداخلية .
لا ينبغي أن نخلط الأدب بهذا الذي يجري، وأن نضعه في غير محله، أقول بمعنى أوضح لا ينبغي الخلط بين الأدب والتقنية والوسائط، فالارتباط بالأدب ينطلق من الشعور والوجدان والخيال…وهي وحدها ملكات تقوي الصلة بالإبداع كوجه أعمق للحياة، مهما كان الأمر. فالأدب رسالة ليس بالمعنى الآني ، بل بمعنى ذاك الامتداد في الزمان والمكان . وعليه، فمتى انتصرنا للقوى الجوهرية في الحياة ، كنا إلى طينة الكتابة أقرب كحاجة على قدر كبير من الغموض ، للخلق والتجدد المستمر وامتصاص العالم وصروف الدهر في حكاية تقال بكيفبات عدة سردا وشعرا..وتبقى التجارب الإبداعية أساسية ، لخلق طراوة لهذا الأدب ضمن جدل الاستمرارية اللصيقة بالمصير الخاص والعام . وأظن هنا أن التفاعل بين الخاص والعام ، بين الذات والامتداد في الزمان والمكان ، هو الذي يمنح شحنة قوية للأدب كحياة أخرى في حوار وصراع دائمين مع رتابة وبلادة الحياة العامة .
سؤال الأدب في العمق ، هو سؤال الحياة في تموجاتها وجموحها ، الحياة التي لا تنام على اليقينيات والبديهيات التي تخلق تكلسات ، تغطي أحيانا على الجذور والمسام . تكلسات شبيهة بالطبول اللصيقة بهذا الثقافي ، والممسكة بالسلم الذي يفضي ـ للكراسي ـ عوض سلم الشعر الطويل . أما آن الأوان لهذه الطبول التي شاخت جلدا وتنطعا، أن تتنحى وتترك الهواء يمر؟! .
شاعر و ناقد مغربي