التنويري العربي والتّيوس

خلال حفل تنصيب تشارلز الثالث في ويلز ملكا على عرش المملكة المتحدة، ظهر أحد الضباط البارزين من الكتيبة الثالثة المشاركة في الحفل، وهو الكولونيل في الحرس الملكي البريطاني «شينكن الرابع»، أو السير ويليام بحسب اللقب الرسمي.
ليست مفاجأة للقارئ أن نعرّف بالسير ويليام، الذي يحظى بشهرة واسعة، وهو التيس الملكي الذي يحمل رتبة عقيد، وينتمي إلى سلالة إنكليزية عريقة، ويتمتع بالحصانة الدبلوماسية، وله جواز سفر دولي، ومنزل فخم يتوسط مرعى واسعا، إضافة إلى أن له أملاكا في أستراليا وكندا.
التيس شينكن أو السير ويليام، يتلقى التحية العسكرية شأنه كشأن كل الرتب العسكرية عند مروره، وله مهام محددة تتمثل في تفقد الوحدات العسكرية.
وللسير ويليام راتب مخصص له، يتم إنفاقه على زيّه العسكري وطعامه وإقامته المريحة، حيث يتم تزويده بجهاز راديو وأريكة.

السير ويليام الماعز الرسمي للفوج الثالث، يمكن تقليص رتبته أو رفعها، بحسب السلوك والكفاءة في أداء المهام

السير ويليام يعد تميمة حظ، تبنت العائلة الويلزية الملكية تقليد استخدامه كتميمة منذ عام 1775، خلال حرب الاستقلال الأمريكية، وقيل إن التقليد يعود إلى حرب القرم. ولنا أن نعرف أن السير ويليام الماعز الرسمي للفوج الثالث، يمكن تقليص رتبته أو رفعها، بحسب السلوك والكفاءة في أداء المهام، وقد تعرض أحد أسلاف شينكن، لتخفيض رتبته بعد أن أساء التصرف، وقام بنطح أحد عازفي الطبول، خلال عرض الاحتفال بعيد ميلاد الملكة إليزابيث الثانية، ويشرف على التيس ضابط برتبة مقدم، وفي حال موت التيس يقوم الفوج بإبلاغ الملك للإذن باختيار حيوان جديد يتم تدريبه ليحل محل التيس الراحل. من يسمون أنفسهم بالتنويريين العرب، المفتونين بتيارات النقد الغربي، التي تعلي من قيمة العقل والاحتكام إلى معيار العقل وحده في الحكم على الأشياء، لن تجد لهم حضورا بتناول مثل هذه الأحداث، التي تصادم العقل والمنطق، وتعتبر وفق المبادئ العلمانية ضربا من التخلف والرجعية، وإعلاء قيمة الخرافة بالتماس الحظ في تمائم على غرار ما تحدثنا عنه بشأن التيس الملكي. لكن في المقابل، تجد له حضورا نشيطا عندما يتعلق الأمر بالنص الإسلامي، فلا يترك مثلا حديث الذبابة في صحيح البخاري (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في إحدى جناحية داء، وفي الأخرى شفاء)، حتى يهاجمه ويتهكم على أمة تؤمن بهذه الخرافة على حد تصويره، ثم تجده يعرض إعراضا تاما عما توصلت إليه الأبحاث العلمية الحديثة، من التأكيد على حقيقة حمل الذباب للمرض وعلاجه في آن واحد، وباتت الاستفادة من الذباب في العلاج حقيقة لا يستطيع أحد إنكارها. يتقبل التنويري العربي فكرة إحياء العقائد المندثرة في الحضارات العتيقة، بما فيها من أعياد ومظاهر وثنية، وإعادة صياغة الركام الوثني فيها، وابتعاث روح الأسطورة، لا حرج لديه في ذلك، لكنه يضيق صدره بتقبيل الحجر الأسود واعتباره ضربا من التخلف والرجعية. يتهكم التنويري العربي على العلاج بأبوال الإبل الوارد في الحديث النبوي، لكنك لن تسمع له صوتا إزاء قهوة «كوبي لواك» عالية السعر، التي تصنع من فضلات قط الزبّاد، ولا ترى هذه النبرة التهكمية، حين يتعلق الأمر باتجاه شركات غربية للاستفادة من بول البشر في تصنيع البيرة، وقبل سنوات أطلق مهرجان روسكيلد في الدنمارك مبادرة «من البول إلى البيرة»، واستجاب أكثر من مئة ألف للحضور، كما ذكر موقع «لوموند» الفرنسي، وتم تجميع حوالي 25 ألف لتر من البول، لإدخالها في صناعة الأسمدة لحقول الشعير التي تصنع منها البيرة. وقرأت في بعض الصحف عن طرح شركة المشروبات الدنماركية (pisner) لشراب بيرة مصنع من البول البشري، ولم نسمع للتنويري العربي المستورد للقيم الغربية صوتا. يصرخ التنويري العربي باسم الرأفة والرفق بالحيوان، إذا تعلق الأمر بالأضحية التي تذبح في عيد الأضحى، ويعتبرها مذبحة جماعية للحيوانات، لكنه في المقابل، لا يتحدث عن صعق الحيوانات بالكهرباء لمد سلاسل المطاعم الشهيرة في أوروبا، ولا يتطرق للفلكلور المتبع في جزر فارو الدنماركية منذ القرن السادس عشر بذبح الحيتان وكسر أعناقها على الشاطئ ليصطبغ باللون الأحمر، ولا مذبحة الديوك التي يقيمها اليهود في عيد الغفران لنقل خطاياهم إلى الديوك.
ليست هناك مشكلة للتنويري العربي مع الخرافات واستدعاء تيارات ورموز فكرية في منظومتهم الحداثية، قائمة على الخرافة أو لها ارتباط وثيق بالميثولوجيا، حتى لو كان ذلك يقدح في المنظومة الديكارتية القائمة على العقلانية والتجريب، ومن ثم نفسر اهتمام العلمانية – والليبرالية التي تعد أحد أوجهها – بشخصيات ثار حولها الجدل كمحيي الدين بن عربي، واعتباره قمة نضج الفكر الإسلامي، مع العلم أن الرجل يذكر في كتبه أنه تزوج من امرأة من الجن، ورزق منها بثلاثة أولاد، وأنه قابل الخضر المذكور في قصة موسى في سورة الكهف، وغير ذلك مما يتعارض مع المنظومة الحداثية، وذلك بهدف مناجزة التيارات الإسلامية التي يسمونها بالأصولية، وهذا باعترافهم أنفسهم، فمثلا يقول الراحل نصر حامد أبو زيد: «إن استدعاء ابن عربي يمثل طلبا ملحا بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي في السنوات الثلاثين الأخيرة».
ليست مشكلة التنويري مع التخلف العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والصناعي، مشكلته هي فساد الاستدلال وتدويل أزمة أوروبا مع العلم إبان الحكم الثيوقراطي، التي انتهت بالثورة على الدين، واقتطاع هذه الفكرة من ظرفها التاريخي، لتكون نموذجا مفروضا في مجتمعاتنا، مع عدم مراعاة الفارق، فالإسلام لا يعرف هذه الطبيعة الثيوقراطية المناهضة للعلم والمنهج التجريبي، والحضارة الإسلامية خير دليل على هذا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو حفص:

    دائما في القمة بتحليلاتك الدقيقة

  2. يقول الشهيبات مولاي يوسف:

    بسم الله.
    هو في الحقيقة بعد عدة قراءات لمقالاتك الكاتبة المحترمة انطبع في خلذي تميزك و جودة قلمك.
    هذا المقال اهنئك على المقام الذي وصلت فيه بمناسبة متابتك له.
    ما شاء الله. بحث غزير و عميق و شساعة في الاطلاع.
    يمكن لمقالك ان يدرس كنموذج في كتابة المقال الصحفي.
    وهج في الكتابة و روح وقادة ولادة.
    اتمنى لك التوفيق.
    هذه شهادة تطوقين بها عنقك تكليفا و تشريفا.
    كتبتها لان الانسان الكاتب يحب ان يعرف نفسه في قارئه.
    بالتوفيق.

  3. يقول عبدالبديع:

    حتى التيس لا يوافق ما يفعل به أل النفاق في الغرب عكس آل تبع أو آل التنوير الذي لا يعبد إلا أسياده

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    أثبت العلم الحديث بالأبحاث التجريبية المختبرية المحكمة والمعتمدة ، أن الذباب يشتمل فعلا على الداء المتمثل بالبكتيريا الضارة ، وعلى الدواء المتمثل بالمضادات لتلك البكتيريا . مصداقا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ ؛ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً ) رواه البخاري (3320)

    ومن أقوى الأبحاث التي أقيمت في هذا الموضوع بحث الأستاذ الدكتور مصطفى إبراهيم حسن ، أستاذ الحشرات الطبية ، ومدير مركز أبحاث ودراسات الحشرات الناقلة للأمراض ، وكان بحثه بعنوان : ” الداء والدواء في جناحي الذباب “، يمكن الاطلاع عليه على الرابط الآتي :

    http://www.eajaz.org/pdf/12.pdf

    وقد جاء في نتائجه (ص9-11) قوله :
    – يتبع –

  5. يقول الكروي داود النرويج:

    ” يتضح من النتائج السابقة وجود كثافة عددية عالية من انواع عديدة من البكتريـا علـي جناحي الثلاثة انواع من الذباب ، بينما قلت اعداد البكتريا وانواعها علي جناحي البعوضـة .

    كما اتضح ان أكثر انواع البكــتريا شراسة هو نوع (B.circulans) الذي يفرز مادة مضادة للحيوية لكثير من انواع البكتريا الاخري سواء سالبة أو موجبة الجرام .

    ولقد لـوحظ تواجـد هذه البكتريا بكثافة عالية علي الجـناح الأيمن للذباب . كما لوحظ وجود انواع من الفطريـات التي تفرز أيضا مواد مضادة للحـيوية لكثير من انواع البكـتريا .

    كما اتضـح قدرة البكتريـا (B.circulans) علي قتل الانواع الاخري من البكتريا في زمن قصير جدا . وهي البكتريا التي تنقل العديد من الامراض للإنسان والتي تم ذكرها .
    – موقع الإسلام سؤال وجواب –

  6. يقول محي الدين احمد علي:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . أي شيء صادر من الدين الإسلامي يخرج علينا من هم من جلدتنا للهجوم عليه وهم الذين يطلقون علي انفسهم ( التنويري ) واي شيء يخرج من الذين يعادون الإسلام هو العلم والتقدم والفهم الصحيح ولهذا هم متقدمين في الحياة الدنيا ونحن متخلفين وعلينا ان نعتقد ونصدق ما يقولون اذا كانت خرافات او أي شيء مما يعتقدون وهذا شرف لنا , ومما يلفت نظري رغم مشاكل العالم اليوم وهو يعاني في كل شيء ومن كل شيء ولكن عنده الوقت الكافي
    لتجنيد هؤلاء ( التنويرين ) للهجوم علي الإسلام . حسبي الله ونعم الوكيل . وشكرا

  7. يقول خيري بن عثمان:

    لا يمكن لمثل هولاء التيوس أن يقتنعو بما اوضحت لهم من حقائق دامغة

  8. يقول سعيد مجبل:

    لا فض فوك

  9. يقول Abdulla Nigresh:

    كم شعرت بالاعتزاز والفخر بأن كاتبة أردنية متمرسة تكتب بهذه الجزالة. وتقدم معلومات عز نظيرها. تبين الحقائق وتفند الخرافات. مشاكلنا تنبع من دواخلنا وتقليدنا العقيم لكل شي عقيم ينافي قيمنا النابعة من أعظم دين أنعم الله به علينا. بالتوفيق أستاذتنا الكريمة

  10. يقول د. عبد المؤمن املاجه يوسف:

    أحسنت ، وأجدت ، تسلم يديك ودام عطائك يا أستاذتنا الفاضلة.

إشترك في قائمتنا البريدية