التنوير والرؤية الجذرية للعالم

التدقيق في الأهمية القصوى، التي تكتسيها الرؤية الجذرية للعالم، يقودنا حتما إلى مجال الرؤية الوسطية، التي تعتبر شرطا أساسيا من شروط ترسيخ قانون الاعتدال. إلى جانب تأثيرها الملموس، في تحقيق قسط عال من التوازنات، التي تستدعيها الظرفية السياسية، الدينية، أو الثقافية. لكن، حالما تتجاذب هذه الظرفية رياح الخلط والتحريف، خاصة منها رياح الظلامية والتجهيل، فإن الرؤية الجذرية تصبح أكثر إلحاحا، بوصفها أداة ناجعة لإعادة ترتيب مكونات المشهد، في أفق التحيين الفعلي والموضوعي لمكوناته ومقوماته، لذلك، فإنها ضمن هذا التصور، تكون بمثابة محو فعال، يطال مختلف الزوائد التضليلية، التي يحدث أن يبتلي بها الخطاب، نتيجة ما يتخلله من تزييف انتهازي، أو تحريفي.
ولعل الاشتغال الجذري لهذه الرؤية، هو الذي يسمح إلى حد ما، بإعادة النظر في ما تعودنا على اعتباره أمرا مألوفا ومكرسا. علما بأن منهجية التكريس، غالبا ما تتحقق بضغط من هاجس التسامح التواصلي، الداعي إلى توخي مواقف مرنة، تجاه الإشكالات العالقة، بحثا عن حلول ملائمة لإكراهات الراهن. وهي المنهجية التي تتخلص بها المحظورات عادة من عنف سلبياتها، لتأخذ طريقها الآمن، في اتجاه فضاءات القيم المعتمدة من قبل الأعراف السائدة.
وكما هو معلوم، فإن غض الطرف عن الخلفيات الكامنة في تفجير الخلافات، حول القضايا العالقة، بدعوى اعتماد رؤية وسطية فضفاضة، – وفي أحايين كثيرة مشبوهة – غالبا ما يؤدي إلى تكريس ممارسات، وخطابات هجينة، ذات تداعيات كارثية. هنا تحديدا تتمثل ملحاحية الرؤية الجذرية، إنها تجدد رؤيتنا لأشياء الذات والعالم، من خلال تمزيقها لغشاوة المألوف والمعتاد، ومن خلال نفضها لذلك الغبار المتراكم على ظاهر المسلمات، مسلطة بذلك ما يكفي من الضوء الحارق، على بياضات الحقائق المغيبة، كي تنهض من رمادها.
وبالرؤية ذاتها، يمكن قراءة المسارات التي تمرّ بها الخطابات الكبرى، صعودا وهبوطا، على ضوء ما يلازمها من انتكاسات أو طفرات. كما أنها تمدنا بآليات استجلاء العوامل الخفية والمعلنة، المؤدية إلى إشهار سلاح الرؤية الوسطية، لاسيما في جانبها المتعلق بـ»قيم الاندماج» بما هي دعوة ضمنية، لتفادي أي ممانعة ضدها. ذلك أن طقوس الحداثة المفترى عليها، تستدعي، التقيد بمسلكياتها، وتصوراتها وأعرافها، التي يتعذر دونها، تحقيق مطلب الاندماج في أي من فضاءاتها. وهو ما يعني وجوب تقديم تنازلات متتالية، في هذا الإطار. ومن المؤكد أن المنطق الوسطي، غالبا ما يتدخل كي يضفي على هذه التنازلات مشروعيتها ومصداقيتها، انسجاما مع الاعتبارات الداعية إلى ممارسة وتكريس «ثقافة» التفهم والتفاهم الكوني، مهما كانت قسرية وإجبارية، إلا أن هذه الصورة التوفيقية والتلفيقية في آن، والمزهوة بألوانها القزحية البراقة، لا تلبث أن تتبخر فور إعلان الرؤية الجذرية عن حضورها، حيث تتراجع المبررات المطروحة من قبل التوجهات الاعتدالية، مفسحة المجال للإشكاليات التي طالها التدجين، كي تستعيد حيويتها وحركيتها، في أفق اجتراحها لآفاقها المستقبلية.

الرؤية الجذرية للعالم، هي بمثابة إنذار بانهيارات وشيكة، وتواطؤات مؤشرة لاحتمال السقوط الشامل في عمق هاوية ما، بلا قرار، لكنها إلى جانب ذلك، تنبه إلى إمكانية إشراق شمس الخلاص، شرط المبادرة بقلب الطاولة، التي لا تعني بالضرورة المراهنة على التخريب المجاني لمجموع مؤثثاتها.

نخلص من هذا الاستنتاج، إلى أن الرؤية الجذرية للعالم، تستمد مشروعيتها من استراتيجيتها المتميزة بتفنيدها لكل الاختلاقات المفتقرة لروح الموضوعية والعقلانية. كما أنها تمنح الحق في إعادة تقييم الثوابت التي تقرها الرؤية الاعتدالية والتوفيقية، حيث يرتفع الاكراه، مخليا الطريق أمام حركية الفكر والممارسة، كي تعيد النظر جذريا في جوهر الاختلاف أو الائتلاف المسكوت عنه. علما بأن إعادة النظر هذه، تشمل مجموع مكونات البنية العقلية التي تتشكل وتشتغل بها الذات المهتمة، في مقاربتها للمجالات المعنية بها، أي أنها تحدث زلزالا حقيقيا، أينما حلت وارتحلت، في عمق القضايا التي دأبت السلطات المتنفذة على احتكارها. سواء تعلق الأمر بالمجال الديني السياسي، الفكري، أو الإبداعي. وبفعل هذه القوة التدميرية التي تمتلكها، تصبح بالنسبة للقناعات السكونية بمثابة عدو حقيقي، ينبغي العمل على محاصرته، بكل ما يستدعيه مفهوم المحاصرة من عنف ووحشية، عبر اختلاق كل الذرائع الكفيلة بذلك.
إنها تصبح من هذا المنطلق، عرضة لسهام الرماة، الذين يضطرون مؤقتا إلى تجاوز خلافاتهم وصراعاتهم الداخلية، من أجل التآزر للإجهاز عليها، ويحضرنا في هذا الشأن، ما لا يتسع المقام لذكره من توصيفات الإدانة والتبخيس، التي تضع الرؤية الجذرية في قفص يضيق بركام هائل من عرائض الاتهام، ولكل جبهة مناوئة، معجمها المنسجم مع «قداسة « ثوابتها التي تتحصن بها، سواء كانت ذات مرجعية دينية، فكرية أو إبداعية. وبالنظر لكون الرؤية الجذرية تستهدف الأنساق المكرسة، فسيكون من الطبيعي أن تتهم بـ»العدمية» وبتجرد خطاباتها من حس المسؤولية، ما يشجع أحلاف الرماة على حشرها في زاوية النزق، التهور، والفوضى، وشطط طمس مساراتهم «النموذجية» التي تعتبرونها مفضية دون غيرها، إلى الأهداف المنشودة. إنها تبعا لذلك، متهمة من قبل هؤلاء بإلقاء بوصلة «اليقين» في النار، قصد تسييد الوعي «العدمي». ما يجعلها مطاردة بالرفض المطلق من قبل الأوصياء على الثوابت، لكونها تشعرهم بفراغ جعبتهم من أي وعي براهنية للأشياء، ومذكرة إياهم بعجزهم عن طرح الأسئلة، الكفيلة باستحداث البدائل المنفتحة على المستقبل.
إنها تبدو من هذا المنظور، جد انقلابية، من خلال دعوتها التحفيزية إلى تجديد آليات اشتغال الفكر التنويري، الذي يتجدد به منطق طرح الأسئلة الفاعلة في تجديد صيغة الوجود. هكذا إذن، تطمح بشغفها الممنهج، إلى الانتقال بالخطابات من بؤس السكونية، وفجاجة الاستنساخ، إلى أراض بكر من أراضي القول. مؤكدة بذلك على ضرورة القطع مع أزمنة الرتابة، التي تحتمي الخفافيش بظلمتها، سواء كانت منتمية إلى المعسكرات المعدنية، التي تمارس فيها الأيديولوجيات، سلطتها، أو إلى فراديس عقائد اليوتوبيا.
من هنا يمكن القول، إن الرؤية الجذرية للعالم، هي بمثابة إنذار بانهيارات وشيكة، وتواطؤات مؤشرة لاحتمال السقوط الشامل في عمق هاوية ما، بلا قرار، لكنها إلى جانب ذلك، تنبه إلى إمكانية إشراق شمس الخلاص، شرط المبادرة بقلب الطاولة، التي لا تعني بالضرورة المراهنة على التخريب المجاني لمجموع مؤثثاتها. وبتعبير آخر، إن حركيتها موجهة أساسا للإطاحة بالعوائق، بما هي أنساق وأنظمة استنفدت صلاحياتها. إنها شبيهة بالضوء الفاضح لسكونية التكريس وأبديته. كما هي المؤشر على حضور مخاضات، وإرهاصات، تخص هذا المجال أو ذاك، ثم إنها لا تمارس هدمها على ما هو قائم، فقط بغية مواراته في مقابر النسيان، بل أيضا، من أجل تحفيز العقل على تحمل مسؤولياته التاريخية. الشيء الذي لا يتحقق إلا على أساس الإلمام بخبايا ما هي بصدد هدمه وبنائه، باعتبار أن الأنساق المستهدفة بالتخريب، تظل حاضرة في الظل، كما في قلب الدائرة التفكيكية، المختصة بتجريدها من استمراريتها.
وبالنظر للنزعة الاستفزازية التي تتميز بها الرؤية الجذرية، فإن تبنيها يقتصر على دوائر جد ضيقة من النخب، ما يجعلها موضع اتهام من قبل الأغلبية الوسطية والاعتدالية، التي لا تتورع عن التعريض بها، واضطهادها، من أجل إجهاضها بكل السبل المتاحة وغير المتاحة، إلا أنها، وضدا على كل أنواع التضييقات المحتملة، تستطيع أن تؤكد حضورها بشكل أو بآخر، كلما توافرت الشروط لذلك، سواء على المدى القصير أو البعيد، باعتبار أنها تنبثق من بين صلب الحتمية وترائبها.

شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تيسير خرما:

    المتدين يؤمن بحياة بعد موت وبخالق للكون وقوانينه وكائناته وخلق آدم وذريته بعقل مهيأ لإيمان واكتشاف وابتكار وحرية اختيار ومتابع لهم بتعاليم نصائح وتحذيرات وأوامر ونواهي وحوافز وعقوبات بالدنيا والآخرة لحفظ نفس وعرض ومال وأسرة ومجتمع وأخلاق وعدالة لكن غير المؤمن يعتبر الموت نهاية لا حياة بعدها والكون صدفة وأحياء تطورت عبر الزمن من عدم لخلايا أحادية لنبات لحيوان لإنسان قرد لآدمي بطفرات جينية آخرها آدم وذريته طورت لهم عقل مهيأ لاكتشاف وابتكار وتطور علمي وحرية اختيار فاختار مليارات إيمان بأديان سماوية

  2. يقول تيسير خرما:

    العلماني يعتبر أنبياء أديان سماوية مجرد مصلحين اجتماعيين وطفرات علم اجتماع كطفرات علوم أخرى وبالتالي يعتبر التزام المسلم المؤمن بوضوء واستحمام وصلوات وصيام وصدقات ومكارم أخلاق وحفظ نفس ومال وعرض وأسرة ومجتمع ومساواة أمام عدالة وتجنب زنا وخمر ومخدر وربا وقتل وسرقة وإيمان بحياة بعد موت وتوبة ودعاء لدخول الجنة كلها مجرد مصفوفة ممارسات صحة بدنية ونفسية ونظافة شخصية وتمارين رياضية وحرية شخصية والتزامات قانونية واجتماعية راكمها مصلحون اجتماعيون من خبرات وتراث سابق وصولا لنسخة أخيرة مفصلة للدين السماوي

  3. يقول تيسير خرما:

    اعتمد علمانيون نظرية الموت نهاية لا حياة بعدها والكون صدفة وأحياء تطورت عبر الزمن من عدم لخلايا أحادية لنبات لحيوان لإنسان قرد لآدمي بطفرات جينية آخرها آدم وذريته طورت لهم عقل مهيأ لاكتشاف وابتكار وتطور علمي وحرية اختيار لكن تبين لعلماء الكون وجود مجرات بها مليارات نجوم ثلثها لها كواكب ومنها عدد هائل يشبه الأرض تكونت قبلها بمليارات السنين ولو كانت نظرية التطور صحيحة لتطورت بها كائنات عاقلة ذات حضارات سابقة لحضارتنا ومتقدمة جداً ومنتشرة بالكون لكن لم يجد العلماء أي أثر لها بل صمت مطبق خارج الأرض

إشترك في قائمتنا البريدية