التهريج الأوكراني.. وأزمة القيادة العالمية

يحمل الخبر الذي نقلته وكالات الأنباء حول تدخل أوكراني في الصراع السوداني مفارقة مضحكة مبكية، فالجيش الأوكراني الذي يدخل صراعاً طاحناً مع القوات الروسية ويقاتل من أجل سيادته وتستعطف قيادته السياسية دول العالم من أجل الحصول على الأسلحة والدعم المادي، يجد لديه هامشاً من أجل أن يرسل بعضا من أسلحته وقواته إلى السودان عبر آلاف الأميال، ليستهدف طرفاً في صراع في قارة أخرى. قد لا يكون الخبر صحيحاً، ولكن نفياً واضحاً لم يصدر بخصوصه، بل ذهب أحد العسكريين الأوكرانيين ليرجح البصمات الأوكرانية على هجمات الطائرات المسيرة في السودان، وفي المقابل، أبدى المسؤولون السودانيون والأمريكيون الجهل والدهشة تجاه الموضوع، ولكن لم يقدم أياً منهم نفياً قاطعاً.
في الوقت نفسه، كان الرئيس الأوكراني زيلينسكي، يخاطب الأمم المتحدة، ويلقي اللوم على مجموعة من الدول لتقصيرها في دعم بلاده، الأمر الذي أثار غضب بولندا لتستدعي السفير الأوكراني وتحتج على التلميحات الرئاسية، وهو الأمر الذي قابلته أوكرانيا بدعوة لتنحية المشاعر جانباً، وهو ما يشكل ضغطاً على الحكومة البولندية وهي على مشارف انتخابات مقبلة، فالمبرر الأساسي لوقوف بولندا بصورة مفتوحة ومطلقة إلى جانب أوكرانيا يقوم على أسس عاطفية أكثر منها سياسية، والبولنديون لم يكونوا طرفاً في الصراع، وهو يتفاعل مع القرارات الاستفزازية للرئيس زيلينسكي، التي ارتكنت إلى الحائط الأمريكي المائل.
الرئيس الأوكراني الذي وصل إلى منصبه بعد مسيرة في التمثيل الكوميدي، يفشل بصورة ذريعة في أداء أدوار جدية في موقعه الرئاسي، وبعد أن استنفد رصيده في استثارة الشفقة والتعاطف، أصبح يتعامل خارج الواقع ويدخل في صراعات جانبية ومنها الخلاف التجاري مع الجيران في بولندا، وغيرها من الدول المجاورة لإجراءات بفرض قيود على واردات الحبوب الأوكرانية لحماية الفلاحين في أراضيها، لتقوم أوكرانيا بالتقدم بشكوى إلى منظمة التجارة العالمية لتثير الغضب لدى الشعوب المحتضنة لملايين اللاجئين الأوكرانيين. ما يحدث من سلوك دبلوماسي وسياسي وميداني من أوكرانيا المهددة وجودياً واستراتيجياً، لا يمكن وصفه إلا بالتهريج الكامل، والمسؤولون الأوكرانيون المتقبلون لفكرة الظهور كظلال حول رجل متواضع الإمكانيات مثل زيلينسكي، تحول الإدارة الأوكرانية إلى سيرك كبير. القصور في فهم أوكرانيا لدورها الدولي والطبيعة الاستراتيجية للصراع وتفاعلات المجتمع الدولي تجاهه، كان يمثل المشكلة الكبيرة أمام العديد من الخطابات، التي قدمت أمام الهيئة العامة للأمم المتحدة، والتي حملت على  الظروف القائمة في العالم، والتهديد الكبير للأهداف المتعلقة بالتنمية المستدامة، والسلبية تجاه صراعات تستهلك الموارد الرئيسية، وتقدم المزيد من الدول لمذبح الفشل الذي لا يقتصر على حدودها، ولكنه يتمدد بصورة إقليمية، وبما يهدد تحقيق السلام والاستقرار في العالم في مرحلة حرجة. وهذه الخطابات التي كان من المفترض أن تطرح على طاولة النقاش بقيت خافتة أمام العرض الفني ذي الطابع السياسي، أو السياسي مع النكهة الفنية الذي قدمه زيلينسكي.

القيصر الجريح في موسكو، والرجل العجوز في واشنطن، يفتقدان الرغبة في اتخاذ خطوة مسؤولة تجاه العالم، فالأولوية لإدارة الأزمات لمصلحة السياسات بعيدة المدى الخاصة بهما

الحروب من وسائل تغطية الفشل الاقتصادي وإخفاء معالم الجريمة، التي يحدثها عدم التوازن المتحقق في فترات الرواج، وليس من الحكمة تجاهل أثر الكساد الكبير في تمهيد طريق الحرب العالمية الثانية بالغضب والشعور بالغبن والمظلومية، ودور تلك الحرب في أن تكون حلاً اقتصادياً يحمل طموحات جديدة تقوم على الشعور بالنمو أكثر من النمو نفسه، فكثير من الدول في تلك المرحلة أصبحت تتطلع وتطمح وتحلم بالوصول إلى نقطة الصفر من جديد. تحتاج الحروب الكبيرة إلى رجال يفتقدون للمسؤولية ويعانون من خلط مقيم بين الواقع القائم وظروفه ومعطياته، وبين تصوراتهم الخاصة التي تعكس رغائبية سياسية تتصف بالمراهقة، ومع تغيب المؤسسات أو تغييبها فإنه يكفي قرار واحد خاطئ لتبدأ أحجار الدومينو بالتساقط بعده في صورة قرارات عشوائية وغبية تعكس سلوك الغريق الذي يتعلق بقشة حتى لو كانت في الخرطوم.
القيصر الجريح في موسكو، والرجل العجوز في واشنطن، يفتقدان الرغبة في اتخاذ خطوة مسؤولة تجاه العالم، فالأولوية لإدارة الأزمات لمصلحة السياسات بعيدة المدى الخاصة بهما، وعندما تتدخل روسيا في افريقيا، أو تلتف أمريكا في سوريا، فالأمر يبقى مفهوماً في ظل موازين القوى والقدرات القائمة لدى البلدين، والصين تفضل أن تحتفظ بحساباتها الخاصة، والتوازن الذي تحدثه في سياساتها الخارجية. ظهور رؤساء جلسات التصوير في أوضاع أقرب إلى عارضي الأزياء أو نجوم السينما، مثل زيلينسكي وماكرون مسألة تهدد مستقبل العالم، فالقيادة تعني مسؤولية تجاه متطلبات معينة ووجود تمييز بين الاستراتيجي والتكتيكي، أما الرؤساء المستغرقون في ذاتهم، الاستعراضيون والذين لا يميزون بين خشبة المسرح، ومسؤولياتهم تجاه بلدانهم وشعوبهم، فغالباً سيبقون رهناً للاستفزاز والتلاعب بالصورة التي يحملونها لأنفسهم بغض النظر عن سلوك ديكتاتوري مثل بوكاسا أو عيدي أمين، أو رغبة في البقاء تحت بقعة الضوء مثل حامد كرزاي ومؤخراً زيلينسكي. أزمة القيادة العالمية مفتوحة وربما تكون المدخل لمزيد من الاضطراب والحروب التي يجب أن يدفعها العالم لتجنب الحرب الكبيرة بين القوى النووية، وطالما أن الآليات متوفرة لإظهار المزيد من الأنماط المشابهة لزيلينسكي والظروف التي أنتجته فالوضع يستدعي القلق بصورة حقيقية.
كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية