هل أصبحت عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مسألة وقت؟ ما الذي يمكن أن يفعله الرجل في ولايته الثانية، وما هي الدروس التي تعلمها، والأخطاء التي لن يكررها، وهل يبدو ترامب من الأساس قابلاً للاستفادة من أخطائه؟
هذه أسئلة كثيرة لا ينتظر الأمريكيون وحدهم إجابتها، ففي موسكو يوجد من يترقبون رئيساً يمكن الحديث معه بأسلوب مختلف، يتحدث بصورة مكشوفة ويمكنه أن يعقد الصفقات في زمن قياسي، وخارج دائرة الاحتمالات المتوقعة، وأكثر من عاصمة عربية تترقب حضور ترامب، بعضها يعرف أسلوبه ويمتلك رؤية للتعامل معه، والبعض يراه تحدياً جديداً ويجهز استراتيجية لمناورته واستيعاب ضغوطه، معولاً على المؤسسة الأمريكية العميقة التي تصادمت مع ترامب بعد إعلان النتائج التي أتت بمنافسه جو بايدن إلى البيت الأبيض.
يسفه ترامب من سياسات الرئيس العجوز بايدن ويوجه اللوم لأدائه، ولكنه لا يقدم بديلاً، ومن ذلك، حديثه عن تسليم أوكرانيا إلى روسيا ملوحاً بالحرب الطويلة وغير الحاسمة، منتقداً إعلان بايدن أنه لن يرسل جنوداً إلى أوكرانيا، مع أن الجميع يعرف أن ترامب لن يرسل جنوداً إلى هناك ولا إلى أي مكان آخر، ولن يحمل الأمريكيين فواتير باهظة إذا أتيحت الفرصة لوجود تسوية عملية، من خلال القفز على التنازلات المطلوبة وثمنها، والمفاوضة على أساسها. لا يؤمن ترامب بالمبادئ التي يدعيها الأوروبيون، وحرية أوكرانيا وسيادتها وما إلى ذلك من مبررات لا تدخل في أولوياته أو حساباته، والمرجح أن يبحث مع بوتين طريقة للخروج من الأزمة، وستأتي غالباً على حساب أوكرانيا، التي لا تمتلك أوراقاً تهم ترامب وتحرك حساسيته الانتهازية. بعد ذلك تظهر الصين التي ستعود من جديد للمواجهة مع ترامب، ولكن في ظل ما يحدث في العالم وظهور دول صناعية جديدة مثل بنغلاديش وفيتنام، فالصراع سيتوجه للتكنولوجيا والتمويل، وهذه ليست الساحة المفضلة لترامب وسيتركها للإدارة قطعة بقطعة ومرحلة بمرحلة، وضمن استراتيجية الإجراءات التجارية، معولاً على صبر الصين التي لا يبدو أنها تتوجه لاتخاذ أي خطوات تصعيدية محرجة لإدارته. طهران هي الأخرى، من العواصم التي تتابع ترامب وعودته وتتأهب لمرحلة من التضييق الاقتصادي ولاستراتيجية جديدة من خلال تحالفاتها الإقليمية، سترفع مستوى التوتر في المنطقة الذي يعيش ظروفاً مضطربة من الأساس، والمتوقع أيضاً أن تضغط الظروف الاقتصادية على الشارع الإيراني، لتعود الاحتجاجات لتوترها الذي غالباً ما سيتجاوز الانتفاضة التي أتبعت مقتل الشابة مهسا أميني.
لم تشهد معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي تغيرات جوهرية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، خلال العقود الأخيرة، باستثناء حقبة ترامب الأولى
كل هذه التفاعلات ستتيح المجال لترامب من أجل أن يعمل على أحد المشاريع الرئيسية على المستوى الدولي وهو المتعلق بالترتيبات في الشرق الأوسط، الذي سيطرح نفسه ضمن أولويات ترامب، خاصة أن ترتيبات صفقة القرن انقطعت نتيجة الفوضى المرتبطة بوباء كورونا، ولكنها للمفارقة مستمرة من الجانب الإسرائيلي الذي يواصل سلوكه الاستيطاني ويحول مدن الضفة الغربية إلى معازل سكانية محاصرة، والوضع في غزة أصبح مواتياً لتبادلات في الأرض تدفع الفلسطينيين إلى منطقة النقب الصحراوية، وتتيح لإسرائيل تثبت واقع جديد لمصلحتها في غزة، وواجهتها البحرية المفيدة لمشروع الطريق الهندي، وهو الأمر الذي أظهرته خرائط صفقة القرن عند إعلانها، ولكنها أتت على أساس التبادل مع الضفة لتوسعة غزة، ولا تجد هذه الترتيبات ما يحتمها مع الواقع الجديد في غزة، بمعنى أن الغزيين سيتم تهجيرهم في النهاية، وفقاً لخطة ترامب في المبادئ العريضة، أما في التفاصيل، فليس معروفاً ما الذي سيتبقى من غزة أو من الضفة بعد ذلك. أكثر من بلد عربي سيتضرر من صفقة القرن في نسختها الترامبية، بعضها يعي المشكلات التي ترتبط بها مثل الأردن ولبنان، خاصة في ملف اللاجئين، وبعضها يركز على المدى القصير ومكتسباته مثل مصر التي تتخذ مواقف سلبية تجاه استحواذ إسرائيل على الممكنات الاقتصادية في شرق المتوسط، وتقدم مشروعاً يهدد قناة السويس التي تشكل رافعة أساسية للاقتصاد المصري، بل إن الاستثمارات المصرية بين البحرين الأحمر والأبيض لا تغدو مفهومة في ظل وجود مشروع إسرائيلي يستغل الواجهة البحرية في عسقلان وأشدود وغزة. لم تشهد معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي تغيرات جوهرية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، خلال العقود الأخيرة، باستثناء حقبة ترامب الأولى التي تتابعت فيها الاتفاقيات والتفاهمات الطموحة، وفقاً لرؤية ترامب وطريقته في التعامل مع الملفات على مستوى المنطقة، فما المتوقع في الحقبة الثانية، التي تبدو أحياناً، وفي حال عدم وجود تحولات كبيرة على المشهد السياسي الأمريكي، مسألة وقت لا أكثر، والسؤال الذي لا يمكن التملص منه أو تأجيله يتعلق بالاستراتيجيات اللازمة للتعامل مع ترامب ومشروعاته، وهو ما يدفع بصورة رئيسية لوجود محور عربي يستطيع أن يتفاهم خارج الاشتباكات المرحلية القائمة، وأن يتحمل مسؤولية التعامل مع أمر واقع سيمتد لعقود من الزمن، وسيسهم في النهاية على تقديم الحلول التي تحتاجها إسرائيل على حساب الدول العربية، لأن أي مشكلة إسرائيلية كما أظهرت الأشهر الأخيرة هي مشكلة غربية، أما المشكلات البعيدة عن إسرائيل فيمكن أن يتم تسويفها وتأجيلها وإهمالها في النهاية.
كاتب أردني