يشمل كتاب الطاهر قيقة (1922 ـ 1993) «تسع ليال مع كاليبسو»، دار التركي للنشر 1991، ثلاث قصص مستوحاة من التراث اليوناني؛ تتفاوت طولا وقصرا، هي «جنون سقراط» و«تسع ليال مع كاليبسو» وهو العنوان الذي يسم المجموعة، و«ذات الخمار الأبيض». وثمة خيط ينتظمها كلها، يفصح عنه الكاتب، مرده إلى ما يسميه «تطويع اللغة العربية» والقص بواسطة الحوار.
يقول: «من دواعي غبطتي، وأنا أكتب هذه النصوص، تطويع لغتي العربية، حتى تعبر عن أجواء غير أجوائها، وتتفاعل مع وجدان وخيال غير وجدانها وخيالها؛ بدون أن تفقد صفاءها.» وأما الحوار فقد اتخذ هيئتين، وهو ليس حوارا مسرحيا يعتمد السرعة والإيجاز والمباغتة. وإنما هو حوار بطيء رصين، كالذي يعتمده المفكر، مثل حوارات أفلاطون على لسان سقراط. والحوار الحالم البطيء الذي يجري بين رجل وامرأة متحابين في جنح الليل. والقص بواسطة المناجاة أو حديث النفس للنفس، كما هي حال بينولوبيا زوجة أوديسيوس التي تحدث نفسها ليل نهار، ذاكرة زوجها التائه في البحار، وأوديسيوس الذي يحدث نفسه على ظهر سفينته، وهو في طريق العودة.
أما القصة الأولى «جنون سقراط فتعالج سيرة الفيلسوف اليوناني الذي عاش في أثينا في القرن الخامس ق.م، وحكم عليه بالإعدام وهو في السبعين، وشرب قدح السم بنفس راضية مرضية. وكانت مناسبة الكتابة، إثر جولة في مدينة أوروبية؛ حيث كان الكاتب في «حالة هيام وضياع» بعبارته فـ«من غريب ما يحدث للمرء أن يشعر في حالات الضيق والحيرة، أن همومه التي تختلج في نفسه؛ لها شبه ولو بعيد بما أحس به إنسان آخر عاش في غابر الزمان في قومه أو في أقوام آخرين». ومن هذا الجانب، يمكن أن يكون سقراط «قناعا» للكاتب أو للحكمة المتخفية في الجنون، أو «تعبيرا بـ…» أي هو توظيف، أكثر من «تعبير عن…» والإقرار بهذا التعبير الكنائي أو الرمزي، يتطلب قراءة متمعنة في شتى تفاصيل الحوار، بين سقراط وكل هؤلاء الذين يستحضرهم الكاتب، مثل «كريتون» تلميذه وأعز أصدقائه، و«كلينياس» الشاب الثري الذي كان يختلف إلى حلقات السفسطائيين؛ لتعلم الخطابة وطرق إقناع الجماهير. ويقول له سقراط :»مدينتكم أكلها الكلام، وغمرها فيض الكلام، وقوضها الكلام… والخير يسعى إليه في صمت». أو حديث سقراط عن زوجته «أكسانتيب» الشرسة الشمطاء، وقد طردته؛ فيقول مسوغا زواجه «فلسفيا» إنه تزوجها حتى يتدرب على معاشرة الناس؛ والفرسان الأشاوس إنما يقتنون أكثر الخيول جموحا؛ حتى يسوسوا غيرها بسهولة، أو الحوار مع الإسكافي الذي فقد رجله في معركة من أجل الوطن، ويقول له سقراط: «الشعوب تمقت قدماء المحاربين». وكذلك الحوار مع «اسباسي» الفتاة القادمة من مدينة ميلي قرب أومير، حيث تعلمت الخطابة، وأقامت في أثينا حيث أصبحت محظية حاكمها «بيريكليس»، وتعاشر في الآن نفسه رجال السياسة والعلماء والأدباء والفنانين. ويمازحها سقراط متغزلا؛ فتجيبه: «ماذا أصنع بشيخ مثلك؟» ويرد سقراط: «غزل الشيوخ ألطف وأعمق. ألذ ما في الكأس الثمالة». وتجيب هي بعد حوار مستفيض: «السعادة وهم من أوهام الفلاسفة»، أو سقراط وهو يقص على تلميذه «فايدروس» قصة أهل الكهف (غير القرآنية) وقد وجدوا أنفسهم في كهف مظلم، فالتفوا على بعضهم مذعورين.. حيث كان يشع نور خافت، وتبين مسالك في وجهات مختلفة؛ وتتعالى أنغام وأصوات رخيمة، وتتراءى لهم مروج وجنات وقصور ونساء… وكان بينهم رجل صالح، فيحذرهم من أن ما يتراءى لهم أخيلة وأوهام؛ لا حقيقة وراءها سوى الهلاك والدمار.
أما القصة الثانية «تسع ليال مع كاليبسو» 1988 فمستوحاة من الإلياذة والأوديسا. ونعرف من الأسطورة أن أوديسيوس تاه عشر سنوات في البحار. ويصل إلى جزيرة كاليبسو الحورية الجميلة. دفعته الأمواج اللطيفة، جنحت على الرمال الناعمة. يكتشفها كاليبسو وتقع في حب أوليسيس الوسيم. وتحمله إلى المنزل وتريد أن تتخذه زوجا، وتبقيه عندها إلى الأبد؛ لكنه لا يريد البقاء، فهو ينشد الخلاص بسرعة ويريده. يائسا، ينتظر أوديسيوس قرب البحر على صخرة ويحدق في الأفق. سبع سنوات، احتفظت به كاليبسو في كهفها لحمايته من جميع الأخطار، وكذلك لمنعه من التفكير في إيثاكا، موطنه الأصلي؛ بكل ما ينطوي عليه الاسم «كاليبسو» والكهف من معاني الإخفاء والتخفي. ثم يأمرها هرمس، الذي أرسله زيوس، بعد سبع سنوات، بإطلاق سراح أوديسيوس الذي استهلكه حنينه. بحزن شديد، تستمع كاليبسو إليه وتذهب لتخبر أوديسيوس أنها ستطلق سراحه. ويرفض ما تعرضه عليه: الزواج والخلود. ومع ذلك تمنحه طعاما يجعله على قيد الحياة، وأشياء في حالة حدوث عاصفة. ويقوم ببناء قارب للعودة إلى إيثاكا. وبحزن شديد، تراقبه كاليبسو وهو يرحل.
وسؤالي ما إذا كان الكاتب، وهو يصوغ هذه القصص، تحرر تماما من ثقافته الأدبية والفلسفية العميقة، ومن سطوة بول فاليري في قصيدته عن كاليبسو.
على أن براعة الطاهر قيقة وهو الكاتب المثقف المتمكن من اللسانين العربي والفرنسي، إنما مردها إلى ذكائه في التقاط تفاصيل من الأوديسا، لا أعرف شخصيا من تنبه إليها غيره. فهوميروس لم يذكر إقامة البطل مع كاليبسو إلا في موضعين اثنين، وفي أبيات قليلة. وسؤال الكاتب: لماذا أوجز، في حين أطنب في مواضع أخرى؟ ومن ثمة كان منشوده أن يسد هذه «الثغرة» الهوميرية، فتخيل تسع سهرات يقضيها أوديسيوس مع الحورية؛ في بداية مقامه وفي وسطه وفي نهايته. وقراءتها كما صاغها الكاتب أكثر إمتاعا ومؤانسة من تلخيصي لها: ففي الليلة الأولى مثلا، يتساءل أوديسيوس حائرا ملتاعا: «أين أنا؟ أين أنا» وتهدئ كاليبسو من روعه: «أنت ضيفي وفي فراشي.. قذف بك البحر في هذه الجزيرة فأسعفتك». وهو يسائل نفسه: أيقبل عليها أم يتماسك ويتريث؟ وفي الليلة الثانية، تنقله كاليبسو من مخدعها إلى مكان آخر في قاعة الجلوس، حيث يجري بينهما حوار طويل. وتكشف له عن سرها: «ألقت بك المياه الطامية على أرض جزيرة السماني، وأنا حورية خالدة». ويقص هو سيرة كاذبة حيث اختطفه بحارة فينيقيون من جزيرة كريت، ونزوله في مدينة صور. ولكن الحورية لا تصدقه، فهي تعرف أنه بطل طروادة، وقد ساقه القدر إليها لأمر ما، قدر منذ الأزل. ويعترف أوديسيوس: «نعم أنا أوديسيوس ملك جزيرة إيثاكا وأحد المقاتلين في حرب طروادة اللعينة، أضع نفسي بين يديك». وفي الليلة الخامسة، تكشف كاليبسو عن وساوسها؛ وقد بدأت حياتها تتبدل، وكأنها تنسلخ من جلدها، أو هي تتخذ هيئة بشرية: «لماذا أتحدث عنه كأني في عداد الموتى؟ أعراض بشرية أصبت بها، وأنا حورية خالدة». بيْد أنها تدرك استحالة هذا الحب، فما يفصلها عن أوديسيوس هو ما يفصل بين الداثر والأبدي؛ وما يفصل بينهما إنما هو خلودها وفناؤه. ولن يزول الفارق إلا إذا منحته الخلود. وفي الليلة التاسعة، نرى أوديسيوس في المركب، وكاليبسو في الجزيرة، وكل منهما يحدث نفسه. ثم تحل هي بالمركب، تراه ولا يراها، وهي تناجيه: «نمْ يا أوديسيوس، سأوقظك عند شروق الشمس، لتواصل طريقك وحدك».
والقصة الثالثة هي «ذات الخمار الأبيض/ أحاديث النفس للنفس» فهي قصة بينولوبيا بامتياز، بل هي مشهد مسرحي متكامل حيث الزوجة في وحدتها وضياعها، وهي التي تنتظر عودة زوجها طوال عشرين سنة، ولا تستجيب للخطاب على بابها. ونراها في السنة العشرين من مغادرة أوديسيوس، تقص حلما، وقد رأت زوجها في المنام؛ وتشير إلى الخطاب الذين يحاصرونها، ويوقعون إماءها في أحابيلهم. ثم أوريكليا الحاضنة العجوز، في السنة نفسها؛ وقد أدركت أن السائل الذي أتى به تليماخوس، في ثياب رثة وهو يتوكأ على عصا؛ هو أوديسيوس نفسه. وتسر بالأمر إلى بينولوبيا، ولكنها لا تصدق، والحاضنة تصر وتقول: «عين الحاضنة لا تخطئ إذا رأت ابنها». ثم نرى بينولوبيا تستعد في الغد لمواجهة الخطاب: «أنا مستعدة اليوم للزواج بأمهركم في الرماية» وتذكرهم بأن أوديسيوس هو سيد الرماة. وتنعقد المباراة بعد غروب الشمس، وكل منهم يخفق في إنفاذ السهم عبر الحِلق الاثنتي عشرة. ويتقدم أوديسيوس، ويشك الحلقات كلها. وعندها تأتي الحاضنة، وتأخذ بيد كل منهما، وتقودهما إلى المخدع.
وسؤالي ما إذا كان الكاتب، وهو يصوغ هذه القصص، تحرر تماما من ثقافته الأدبية والفلسفية العميقة، ومن سطوة بول فاليري في قصيدته عن كاليبسو. وأقدر أنه نحا منحاه في أسطرة القصة، والتركيز على موضوعات الرغبة والاستشراف أو التوقع والبعد الجنسي الرمزي، حيث تبرز كاليبسو على عتبة كهفها البحري، في تقدمة إلى العالم المرئي، بدون أن تنفصل بكل كيانها عن عالم الظلال الذي انبثقت منه. فثمة قوة ظلت تكبلها، أو تجعلها نصف أسيرة، وهي المنشدة إلى نفسها أو اسمها المشتق من «الإخفاء»، أو أن معناه «التي تخفي» و»تستر» و»تحجب» و»تواري» بل تضمر قصدا، وتكتم خطة.
شاعر تونسي
القصة تكتمل عند حصول فائدة منها. أما قصة دينديمقراطية فقد صاغها ” أبطالها ” على ” ذوقهم ” فكان المال هو المتحدث بصوتهم من وراء ستار ويا ستار استر على كل من قبض وقتر وكأنهم لا يعلمون للصدقة صدفة رغم أنها عندهم عقيدة شفوية فلا تبرع أحدهم لصيانة مدرسة أو معهد أو كلية أو مبيث جامعي أو تبرع لديوان خدمات جامعية رغم أنهم في بداياتهم استماتوا على الأوقاف وإعادة نشاطها إلا أن حصولهم على الأموال كان غير معلن؛ ” قولوا لم ننل أي تعويض ” هكذا يتناقلون خبر التكذيب مع أن تجارة ” الكاشة ” أو ” الكوفر فور” قد ازدهرت في زمنهم وكل منهم اتخذ له صفة جاحظ مع ان شح الجاحط كان ممزوجا بفكاهة. أقلها كان عليهم أن يقرضوا الخزينة بأموالها التي انسكبت وسالت وجرت في خزائنهم. لم يرحموا ولو متشردا أو مفقرا أوبائسا بقطعة خبز يابس فهذا يطعمونه ماشيتهم الجديدة كما هم أصبحوا جددا وحديثي ثراء فاحش ثم تناسوا ما كانوا يبشرون به ومنه، ” الله يعلم وأنتم لا تعلمون “. فالحكمة تقتضي التأمل في سلوكهم الإنتقامي الذي لم تأت به أية ملة أخرى.