«فكرة العمل الفني هي أساسه وماهيته الأصلية، وما الألوان أو الأصوات والأشكال سوى وسيط ينبه الجمهور إليها كما أن الصورة المرسومة ليست العمل الفني يتم ما للعبارة من معنى، لأن ماهية العمل الفني لا تكمن في النظر إليه، بل النظر فيه ذهنيا… هذه الفكرة تتبدل وتنمو وتغيب وتظهر بحسب الهيئة التي تتخذها على المستوى التقني والتعامل مع الخامة الفنية وما يفرضه أداؤها من داخل اللغة التشكيلية». (من كتاب العمل الفني وتحولاته).
فن النقد في أساسه اقتناصات نتاج حساسية عالية وإدراك للمنتج الإبداعي المعروض للدراسة والتناول، فما يتم تحليله من مخرجات وشواهد من النص الإبداعي «الفني أو الفكري أو الفلسفي» يتم اقتناصها وصياغتها إلى أفكار أولية لموضوع التناول وبالتالي يتم تمريرها على نظريات النقد التي رسخت عبر عصور من الإنتاج الفكري المتواصل من فلاسفة وفنانين ومفكرين. ويأتي كتاب «العمل الفني وتحولاته بين النظر والنظرية .. محاولة في إنشائية النظر» للفنان والناقد التونسي خليل قويعة ــ صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ــ ليسلط الضوء على زوايا معتمة، كانت تعلوها مسحة من الغموض في غرف نظريات، تناولت النظر والمشاهدة، وبالتالي موضوع التلقي الذي هو، كما يشير الكاتب ويؤكد عليه عبر فصول كتابه هذا، من مكملات العمل الفني الحديث وبدونه لا يكتمل إنجازه.
في معنى النظر
الكاتب يبدأ بطرح قضية معنى «النظر» وما ورد في القاموس العربي ومقارنته بالقاموس الفرنسي، وما الفرق بين النظر من حيث الفعل كالنظر في الشيء أو النظر إليه، واختلاف المفهوم أو عدم وجوده بين الثقافتين العربية والفرنسية أو الغربية بشكل عام. في العصر الحديث الفنان سيد أفكاره بخلاف الفنان في العصور الأولى، ابتدأ من الرسم على الكهوف إلى عصر النهضة أو يزيد فكل دوافعه كانت دينية بتدوين وسرد قصص الكتب السماوية، أو كان قبلها في صناعة التعويذات والسحر لمواجهة مخاطر الحياة المختلفة. فقد أصبح العمل الفني المنتج في العصر الحديث فوق القانون، كما يشير قويعة في كتابه هذا، متجولا بالقارئ بكل رشاقة بين عدة نظريات وأفكار تم استخلاصها من قراءات متعددة، كان يشير إليها ويفحصها ويقلبها ويتفق معها في أحيان أو يفندها في أحيان أخرى، والممتع في الموضوع التفكير المنهجي الفلسفي بصوت عال للكاتب، فهو يساعد هذا القارئ المتخصص أو الدارس على الوصول إلى قناعات أخرى غير السابقة القارة من مفاهيم تقليدية من حيث أن الفنان هو العنصر المركزي والرئيسي في إنتاج العمل الفني، بل المتلقي له دور المكمل وبدونه لا يمكن أن يكتسب العمل ماهيته ووجوده. ابتعدت مركزية الفنان الصانع للمقترح الجمالي على الاستحواذ الكلي وصاحب الفضل في إخراجه إلى الوجود بقدر ما أصبح يعتمد وبشكل كبير على المتلقي، الذي يساهم في تشكيل هذا المنتج باقتراحاته في الفهم والإدراك.
يصف الكاتب في الفصل الثالث أن الفن المعاصر أﺻـﺒﺢ خطابا لغويا وبالتالي يصبح التنظير تحليلا لذلك الخطاب، كما في «الفن المفاهيمي».
كجزء من إنشائية النظر هي العملية العلمية للإبصار وعلاقة الطاقة الضوئية والموجات الكهرومغناطيسية والفوتونات التي تنتقل عبرها الألوان وتحددها وبالتالي تحدد ماهيتها وأشكالها التي تتخذها والشبكية وأنسجة الخلايا التقبلية للألوان، وصولا إلى الدماغ الذي يترجم هذه الإشارات عبر عملية معقدة من المراحل تصل الدماغ بشكل إشارات مشفرة، ومنها تترجم إلى بيانات مفهومة وتساعدها خبرات أخرى يعتمد عليها الناظر منها ذائقته البصرية ومجموعة معارفه وتحصيله العلمي وخبرته بشكل عام فكل هذه الأمور تشكل نظرة المتلقى للعمل وتكمل من إنجازه وتحقيقه، وهذا ما يشير إليه الكاتب في فصل كتابه الثاني من شرح يعتمد على المنهج العلمي مستعينا بالكثير من الحقائق العلمية والمعادلات الرياضية والتفكير المنطقي في هذا الخصوص.
الفن كخطاب
وفي استنتاج آخر يصف الكاتب في الفصل الثالث أن الفن المعاصر أﺻـﺒﺢ خطابا لغويا وبالتالي يصبح التنظير تحليلا لذلك الخطاب، كما في «الفن المفاهيمي» وعن ترسيم العمل الفني أنطولوجيا حسب كلام الألماني إيزر من جماعة كونستانس «أن نصا لا يمكن أن يَدرك إلا إذا كتب وبالتوازي لا يمكن أن تصبح اللوحة عملا فنيا، إلا إذا تم عرضها على العموم وليس لشريحة معينة من الفنانين أو النقاد، لتكتسب وجودها الفعلي باختلاف طرق النظر إليها وتعددها من جمهور متنوع الثقافات، وساق مثلا الفتى القوي الذي يصارع أسدا في الغابة، لا يكتسب حالة البطولة إلا إذا كان المصارع في حلبة كبيرة أمام الجماهير الغفيرة ففي هذه الحالة فقط يصبح الفتي بطلا أسطوريا.
من بداية النشأة الأولى للتفكير الفلسفي في مدرسة الحكمة، وصولا إلى أعقد النظريات والأطروحات الفكرية كالفينومينولوحيا إلى قضية الإدراك وعلم النفس بين رولان بارت إلى جون دوي، وكل من توقف عندهم الكاتب من فلاسفة وفنانين وكتاب، في كتابه العمل الفني وتحولاته بين النظر والنظرية (محاولة في إنشائية النظر)، عن ما ساهموا فيه في هذه المناطق كل حسب خبرته وتخصصه، وذكر الكثير من العناوين والمراجع التي بكل تأكيد سوف يستفيد منها الدارسون والباحثون المهتمون في هذا الجانب من مسائل الإدراك والتلقي في العمل الفني والاقتراب أكثر منه.
وفي الأخير .. فالكتاب جاء في لغة مكثفة رفيعة وطرح فلسفي عميق يصعب على الكثير من غير المهتمين والمتخصصين بالشأن الفني الفلسفي، فهو بمثابة توطئة لمشروع كبير يمكن أن يستمر في اكتشاف جوانب أخرى من العملية الإبداعية، وشرح ما يحدث من داخل المعمل التشكيلي، خصوصا أن الكاتب فنان ممارس للعمل الفني ودارس مطلع على ما تم التنظير له في هذا المجال.
٭ فنان تشكيلي من ليبيا