في هذه الأيام المفترجة التي لا تتكرر إلا كل أربعة أعوامٍ، حيث يصل فيها الهوس بكرة القدم مداه، فيشغل الناس عن مشاكلهم، ويقدم لهم متعةً عزت بنشاطٍ صحيٍ (في المجمل) لا يكلفهم كثيراً، وقلما يدخلهم السجون، وبينما تحتل الحرب الأوكرانية بؤرة تركيز المراقبين، ويحبسون أنفاسهم تارةً ويخشون، محقين، خروجها عن السيطرة لتصبح حرباً كونية، ناهيك من أحداثٍ أخرى لها أهميتها أيضاً، كالحملة التركية في شمال سوريا، وتفجيري القدس الأخير، تلك التطورات التي كان من شأنها أن تلقى اهتماماً أكثر، وتُسلط عليها الأضواء لولا الحرب الأوكرانية، فوجئت بما لقيه اللقاء العابر، ومن ثم المصافحة بين السيسي وأردوغان من اهتمامٍ وتحليل في بعض كتابات الصحافيين في مصر.
مشكلة الكتاب والجمهور انتظارهم شيئاً ما، معجزةً أو انفراجاً، يعدل الميزان المختل، دون الحاجة لفعلٍ ثوري إما يغير النظام، أو يجبره على تقديم تنازلات، وهو وهم الأوهام
بدايةً، لا بد من أن أعترف وأقر بما لذلك التقارب من مغزى، ومن كونه تطوراً مهماً، بغض النظر عن تقييم أيٍ من كان له، وإذا ما كان في الاتجاه الصحيح، أم الخاطئ، لكن ما يدهشني حقيقةً هو ما رآه فيه زمرة من كتبوا عنه، والسياق الذي يكتبون فيه، وما تفضحه الآراء التي عبروا عنها من عقليةٍ وبنيةٍ فكرية. من المعروف في السياسة بالضرورة أن للدول والأنظمة مصالح دائمة، قلما تتغير، فالذي يفرضها أو يمليها من جغرافيا وتاريخ محمل بالتطورات، وما صبغته من مزاجٍ وأفكارٍ ومواريث لا تتغير كثيراً بدوريها، أما التحالفات فمتغيرةٌ وفي حالة سيولة بما يخدم المصالح العليا؛ ولا يخفى أن أردوغان، بغض النظر عن رأينا فيه، أثبت عبر الأعوام أنه سياسيٌ محنك على درجة عالية من المرونة، نهازٌ للفرص، يجيد، أو على الأقل لن يحجم، عن تغيير مساره، وربما عكسه وفق المصلحة وبغض النظر عن آرائه وانحيازاته المعلنة، وفي المقابل فالسيسي مأزومٌ اقتصادياً، وربما يحاول أن يتعلم، بغض النظر عن احتمالات نجاحه، نظراً لنشأته وطبيعته ومحدودية قدراته وذكائه. ليس من قبيل المبالغة أن مصر تمر بأصعب وأقسى أزمة اقتصادية في عقود، ومعدلات التدهور في قيمة العملة المحلية، وارتفاع الأسعار وتدني مستوى المعيشة والخدمات، وقدرة الناس على الوصول لها غير مسبوقة؛ انعكاساً لذلك ومساعداً ممرراً له، فإن المجتمع في أضعف حالاته على الإطلاق، حيث ينفرد بالساحة نظامٌ لا مثيل لاستبداده وتوحشه وتمدده واستعداده المتحفز المتوثب لحشد الجنود والبطش والسحق لدى أي بادرة تململٍ، ولن أقول تعبيراً عن السخط في مقابل جمهورٍ أعزل، ينهشه الفقر وغلاء الأسعار والأمراض، غير منظمٍ بالمرة في بيئة جدبٍ سياسية لا مثيل لفقرها، وكل ذلك يجد أبلغ تعبيرٍ عنه في ما نراه ويشكو منه الكثيرون من مظاهر التفسخ والعنف الاجتماعي. لكن من كتبوا عن ذلك التقارب، وجلهم من أنصار القومية العربية بأطيافها (على رأسها ربما الناصري) رأوا في تلك المصافحة اعترافاً بمكانة مصر وفتحاً مبيناً ربما. هم يرون في مصر كياناً متعالياً أزلياً عابراً للواقع الاجتماعي والناس، يجد أبلغ تعبيرٍ عنه في الدولة المصرية والجيش تحديداً، الذي لا يصير مجرد مجموعة من الضباط الذين تحركهم المصالح، الشخصية جداً (وربما البحتة) في بيئةٍ ملوثة كما عرفناهم وعهدناهم، وما أكده ما يتسرب من فضائحهم هذه الأيام، ولا يهم إن كان الناس حطب المحرقة التي تحرك وتغذي الدولة المصرية المتعالية بالطاقة، فالعلاقة معكوسةٌ إذن حيث البشر مجرد مادةٍ وخدمٍ في خدمة الدولة – الكيان. قد يعترض أحدهم مذكراً بأن كثيراً من هؤلاء الكتاب قد اعترض سابقاً على تردي الأوضاع الاقتصادية ومعاناة الناس، ولن أختلف معه، لكن ذلك يكشف حالة الفصام وعدم الاتساق النابعة من تشوشٍ وتشوهٍ فكري عميقين، فهم لا يلتفتون إلى طبيعة العلاقة الجدلية بين الدولة والناس، وإنما في دماغهم مساران متوازيان، الدولة والناس، وإذا خُيروا فسيختارون الدولة والجيش الذي يتعاملون معه كمعبرٍ أصيل، وربما المعبر الوحيد، عن شخصية هذا البلد وجامع كل خيراته ومزاياه، والبذرة التي ينمو منها الناس والدولة – الكيان، ولعلنا نذكر أنه في زمن الإخوان اعترضوا رافعين شعار الديمقراطية مطلباً، حتى إذا جاء السيسي على دبابته بانقلابه وعصف بالحياة السياسية والديمقراطية صار الغرض الأسمى هو الحفاظ على الدولة. من ناحيةٍ أخرى، فربما كانت كتابتهم تلك أبلغ تعبيرٍ عن بؤس الواقع السياسي في مصر، فهم يكتبون تحت سيف السيسي والنظام، على رقابهم، حيث الاختلاف والانتقاد يوردان السجون، لكن أياً كانت الدوافع والضغوط يظل الواقع ناطقاً بأنهم، إن لم يكونوا جميعاً ففي المجمل، يصبون في خطاب النظام وسرديته وأهدافه وانحيازاته، حتى المعترض منهم فلا يفعل ذلك إلا حرصاً على بقاء النظام والدولة، فليس منهم معترضٌ حقيقي عليها ولا طاعنٌ في مشروعيتها.
في المحصلة نحن أمام أشخاصٍ وكتابٍ يعيشون ويخلقون وهماً كبيراً عن كيانٍ عظيمٍ ودولةٍ اسمها مصر، يعيشون ماضياً نسجت خيوطه بدورها من أوهامٍ عديدة كان اختبارها الفعلي والرمزي من ثم في هزيمة 67 ونعرف كيف كانت نتيجتها، وإلى جانب قمع النظام فهم لا يمارسون فقط رقابةً ذاتية، بل هم مؤمنون فعلاً بتلك الصورة في مخيلتهم لبلدٍ يكاد أن يكون عظيماً له وزنه وثقله الفاعل لا مجرد ثقل الجثة والوجود الجغرافي، وهم ينظرون ويبنون حساباتهم على ذلك في برجٍ عاجي أو جزيرةٍ صغيرةٍ طافيةٍ على محيطٍ من الفقر والقمع. إن الواقع المصري أو الفضاء المصري الأوسع شديد البؤس والفقر والضيق، شديد الرثاثة، مرهقٌ تماماً، والانزلاق والمضي في طريق الأماني الوردية ومتتاليات صور المجد والنصر لن يغير شيئاً، تماماً كما هي الحال مع تصور أو انتظار حراكٍ ثوري مقوماته مفقودة والرهان عليه. والمشكلة أن هؤلاء الكتاب والجمهور ينتظرون شيئاً ما، معجزةً أو انفراجاً، يغير الحال ويعدل الميزان المختل، دون الحاجة لفعلٍ ثوري إما يغير النظام أو يجبره على تقديم تنازلات، وهو وهم الأوهام. قد ننتظر إلى الأبد، ونستمر مستمرئين الأوهام، إلا أن التغيير لا بد أن يأتي من الواقع الرث تماماً، حيث تفرض أولية الفعل على أرض الواقع تغيراً في التصورات والقناعات وتسقط تلك الأوهام.
كاتب مصري