التّاريخ الّنسوي ومعاينته نقديّاً

أن تكتب النساء تاريخهن فذلك يعني أن تكون للأدب والنقد فيه حصة مناسبة، لأن كثيراً من مظاهر النسوية وخصوصياتها إنما تتجلى في ثقافتها أدباً ونقداً أكثر مما تتوضح في ميادين نسوية أخرى غير ثقافية. وانطلاقاً من أهمية أن يكون للنسوية تاريخها الذي فيه تتوكد كينونة المرأة الكاتبة، تسعى بعض الباحثات في العالم إلى توجيه الأنظار نحو كتابة تاريخ يوصف بأنه تاريخ للأدب النسوي ونقده، يؤرشف لنشاطات النسوية في الأدب والنقد الأدبي على مدى العقود الماضية ويبوب مراحل التأثير النسوي وما أدى إليه من تغيير جذري في عمليات النشر والعرض والاستقبال للنتاج الأدبي الذي تكتبه المرأة وعلاقته بمجموعة من التخصصات التي لها صلة باللغويات والفلسفة والتاريخ والدراسات الدينية وعلم الاجتماع وعلم الإنسان ودراسات الأفلام ووسائط الإعلام والدراسات الثقافية وعلم الموسيقى والرسوم والجغرافية والاقتصاد والقانون.
وبتتبع التواريخ النسوية تكون مناصرة المرأة متجسدة في ذاكرتها التي بها تحافظ على قوة حركيتها وتتزايد أشكال وعيها التاريخي في كيفية تحدي السلطة الأبوية وتعقيدات نظرتها الجنسانية للذات النسوية. وواحد من أشكال هذا الوعي هو التأرخة للنقد النسوي الذي هو نقد موجه لصالح المرأة وليس ضدها، وفيه للمرأة تاريخها الخاص الذي يضم أفكارها ويتتبع تأثيرها في سياقاتها الأصلية وأهميتها فيسجلها ويقيّمها على حد سواء وفي شكل مشروع حيوي بدءا من حقبة القرون الوسطى وصولا إلى الوقت الحاضر. وذلك بوصف النقد الأدبي النسوي مصدراً لتحفيز البصيرة وتأكيد الذات من خلال الشك والتساؤل، بقصد تغيير الطريقة التي بها ترى نفسها والعالم وكيف تؤثر الكتابة الأنثوية في إمكانيات المرأة وإعادة التقييم للنوع الاجتماعي.
وبكتابة تاريخ النقد الأدبي النسوي يكون للمرأة حضورها المستقل ضمن تاريخ نسوي عام وكبير، وهذا ما قامت به باحثات غربيات مثل كارولين دينشاو وهيلين ويلكوكس وجين غولدمان وماري إيغلتون وجوديث ستل وإليزابيث فاليز وغيرهن، اللواتي ساهمن في تأليف كتاب «تاريخ النقد الأدبي النسوي» بثلاثة أجزاء وبتحرير جيلين بلين وسوزان سيليرز والصادر من جامعة كامبردج عام 2007.
وهذا السعي إلى كتابة تاريخ يمثل المرأة ونسوية أفعالها في النقد الأدبي استدعى منهن القيام بدراسة استقصائية شاملة تبدأ بالمرحلة ما قبل النسوية في العصور الوسطى، ثم مرحلة كتابات ماري شيلي وماريا إدجوورث وشارلوت برونتي والسيدة غاسكل وجورج إليوت، ثم المرحلة النسوية التي تبدأ مع فرجينيا وولف وسيمون دي بوفوار اللتين معهما تبدأ التأرخة للنقد الأدبي النسوي بالتوافق مع ظهور الحركة النسوية في موجتها الثانية.
أما المرحلة التي تسبق هذه التأرخة فتسميها الباحثات مرحلة النقد ما قبل النسوي وتبدأ مع العصور الوسطى التي كان النقد والإبداع الأدبي فيها بالعموم ذكوريا، ولم يكن فيها أي حضور أنثوي سوى بعض الحضور السطحي. إذ ما كانت لدى المرأة أية فرصة في النقد سوى فرص ضئيلة تم فيها تأليف نصوص كان لها قدر من التأثير في الكتابات المتأخرة في هذه العصور وكان ينظر إليها في الواقع على أنها إعادة كتابة وتقليد مع وجود اعتقاد راسخ بأن بعض الوعي في نصوص المرأة فيه احتمال أن يضر بها، وهو الضرر الذي ينبغي تجنبه.
ولهذا كان التعليم مغلقا في وجه المرأة وكانت هناك نظرة سيئة إلى المرأة المتعلمة وكان واقع المرأة بالعموم يعج بالتبعية والتهميش والزجر والإهانة. ومن المؤكد أن الرجال كانوا يسيطرون على الثقافة الأدبية الإنكليزية في العصور الوسطى ولم يكن للنساء انخراط سوى من الناحية النظرية في الأدب وينعكس هذا في ندرة الأعمال التي قدمتها المرأة آنذاك.
وكان لظهور كتاب ماري وولستونكرافت «دفاعًا عن حقوق المرأة» في نهاية القرن الثامن عشر تأثير مهم في الكاتبات اللواتي جئن بعدها مثل ماريا إدجوورث وجورج إليوت ومن ثم بدأت تلوح في الأفق بعض الثقافة النسوية بلا تبعية أنثوية في المجال النقدي ولهذا عدت وولستون كرافت رائدة النسوية الغربية. ونجد في هذه المرحلة ما يشي بتصوير البدايات الحقيقية لظاهرة النقد الأدبي النسوي وفيها تحددت صورة المرأة النمطية من ناحية علاقاتها بمجموعة من المفاهيم المتداخلة بالجنس والإمبراطورية والتجسيد.
وعلى الرغم من أن النساء الكاتبات كن ما زلن في موضع الأقلية فانهن كن رائدات من خلال كتاباتهن التي عبرت عن أفكار ومواقف نقدية ناصرن فيها المرأة، إذ ما عادت الكاتبة تقول: «أنا امرأة ، منبوذة وضعيفة» بل أن بعض الكتّاب الرجال انقلب الأمر لديهم أيضا فدافعوا عن النساء ضد تلك الهجمات المناهضة للمرأة والمتأثرة بأدب العصور الوسطى.
والواقع أن النساء في إنكلترا منذ بداية القرن التاسع عشر بدأن بمخالفة ما كان معتادا في النظر إلى المرأة من قبيل أنها طبيعة أنثوية ثانوية ضعيفة وناقصة وأبدلنها بتقاليد كتابية جديدة تناهض ما كان سائدا في العصور الوسطى وما بعدها من نموذج الثقافة الأدبية الذكورية التي سعت بأنظمتها الجنسانية إلى تشويه صورة الأنوثة. فكن منخرطات في ثقافة نصية وشكلت النساء مجتمعات نصية بوصفهن قارئات ومالكات للكتب والرسائل أو المخطوطات وكاتبات لآداب رومانسية اوتوبوغرافية نثرية.
وإذا كان الكتّاب الرجال مثل درايدن وفيليب سدني وألكسندر بوب مداومين على استعمال اللغة اللاتينية؛ فإن نساء الكاتبات انحرفن عنها إلى اللغة الإنكليزية المباشرة مؤكدات الفروق بين الجنسين التي بها تختلف نوايا القراء ويكون التفكير النقدي عند المرأة رافضا لسلطة اللغة اللاتينية وجاعلا اللغة العامية مؤنثة. وبهذا أثبتت المرأة الكاتبة أنها تعرف اللغة الانكليزية على أفضل وجوهها ومن ثم يمكنها أن تكتب إلى المرأة غير المتحررة وأن تسدي لها المشورة بشأن حياتها ولهذا كانت هناك ابتكارات ثقافية نسوية قوية بمعنى أن «اللغة العامية قد تكون لديها القدرة على تأنيث جمهورها من الذكور من خلال مواءمتهم مع النساء اللاتينيات اللواتي يعرفن القراءة والكتابة» وهو ما ساهم في بناء قاعدة أيديولوجية اجتماعية حديثة للحركة النسوية تنهض بواقع المرأة وتؤسس لتاريخ نسوي في النقد. وقد عدت فرجينيا وولف المؤسسة للنقد الأدبي النسوي الحديث من خلال كتابها الرائد «غرفة تخص المرء وحده» كمثال لمناصرة المرأة لمثيلتها المرأة وفيه وضعت وولف مانفيستو أو مقدمة حديثة للنقد النسوي فكان تأثيره كبيرا في ظهور مفاهيم جديدة في الفكر النسوي بعضها استفزازي يتعلق بالأمومة والأمهات وعقل المرأة وجسدها.
وبعدها أيضا ظهرت سيمون دي بوفوار التي كان لكتبها تأثير مهم في الدفع بالنسوية نحو مزيد من الصور والأفكار الجديدة التي تتعلق بالبناء الاجتماعي للجنسين والطبيعة القسرية للذات المؤنثة وافتراضات الجندرية المتعلقة بالهوية والطبيعة الأسطورية للأنوثة والرجولة. وقد أخذ النقد النسوي بالانتشار من بعد وولف ودي بوفوار بظهور ناقدات مهمات مثل كيت ميليت وجوديث بتلر وغيرهما من الناقدات اللواتي أضفن للنقد النسوي وساهمن في إحراز النسوية لتاريخها الخاص في النقد الأدبي هو خلاصة مراحل طويلة مارست فيها المرأة الغربية النقد بطرائق وألوان شتى قديمة وحديثة ليكون هذا التاريخ جزءا مهما من التاريخ البشري العام.
ومثل هذه الكتب المهمة في التأرخة للنسوية تفرض علينا أنْ نتساءل متى يكون للنقد والأدب النسويين العربيين تاريخهما الخاص الذي فيه نؤسس لتقاليدنا النقدية في الكتابة النسوية أدبا وفكرا قديما وحديثا، بها نبني قاعدة أنثوية للنقد توازي القاعدة الذكورية وبها نواجه الهيمنة الثقافية التي لا ترى التميز والنبوغ والعبقرية إلا في الرجال وحدهم لا غير؟

كاتبة عراقية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية