لاشك أن الفنان الذي رسم على جدران كهف لاسكو في فرنسا منذ حوالي عشرين ألف سنة عمليات الصيد التي كانت تجري في ذلك الحين، كان أول فنان في العالم يعبر بفنه في أقدم أثر فني عن هذه المشاهد التي كان يعايشها يوميا في ذلك الوقت، وكان لها أكبر أثر أيضا ليس في مسيرة الفن بل تعتبر أيضا، رسالة إعلامية تفيدنا بجانب إخباري عن الحياة في ذلك العصر.
وسائل التواصل
ولم يكن للإنسان في ذاك الزمان من الوسائل التي تسهل له مهمته في التواصل مع الآخر كونه لا يمتلك لغة مكتوبة ولا وسيلة أخرى يعبر بها. فجاءت الثورة الأولى في الإعلام من رأس شمرا في سوريا التي اكتشف فيها لوحات اللغة المسمارية التي تقوم على اختراع الحرف. وتأليف الكلمة من حرف + حرف = كلمة و كلمة + كلمة = معنى.
هذه الثورة في التواصل غيرت وجه الحضارة من حضارة شفهية إلى حضارة مكتوبة توجب عليها إدخال مؤسسات التعليم اللغوية لتخريج الكتاب الذين سيعملون في مؤسسات الدولة.
وقد تفرع عن هذه الثورة كتابات أخرى وتطورت في جميع الاتجاهات والأصقاع، وخاصة بعد اختراع الورق ما أسفر عن تطور المجتمعات والحضارات عبر نسخ الكتب وترجماتها، وانتشار المدارس في شتى العلوم والمعارف، إلى أن جاءت الثورة الثانية في الاتصال والتي تمثلت باختراع المطبعة من قـبل غوتنبـرع.
في منتصف القرن الخامس عشر والتي كان لها أكبر الأثر في انتشار الكتب على نطاق واسع بعد أن سهلت المطبعة طباعتها بأعداد كبيرة، وكان من نتائجها انخراط الطبقات الفقيرة في التعليم بعد أن كان حكرا على طبقات المجتمع الراقية. ولكن من النتائج الأكثر تأثيرا في تطور المجتمعات التعليمية والفكرية والثقافية هي نشوء الصحافة. إذ تم انشاء أول صحيفة في الثلث الأول من القرن السابع عشر ( العالم العربي لم يعرف الصحيفة إلا بعد قرنين تقريبا مع ظهور اول صحيفة في مصر في العام 1828 تحت عنوان «الوقائع المصرية» وهي نتيجة إدخال مطبعة بولاق من قبل نابليون بونابرت) وصدرت صحيفة بالفرنسية من قبل الفرنسي تيوفيل رونودو تحت عنوان «لاغازيت».
اختراع الأقمار الصناعية
هذه الصحيفة فتحت الأبواب على مصراعيها في جميع العواصم الأوروبية لولادة عدد كبير من الصحف، فكان من خصائص الصحيفة أنها كانت تقدم لعدد كبير من القراء في آن واحد، كل الأخبار السياسية والاقتصادية والثقافية المحلية والعالمية، وتنوعت من يوميات واسبوعيات وشهريات وفصليات، وكثرت اختصاصاتها فباتت أول وسيلة اتصال جماهيرية أدخلت تغيرات كبرى في صلب المجتمعات والنظم السياسية. لكن العلة أنها تقتصر على المتعلمين فقط ممن يستطيعون القراءة، وبقيت شرائح كبيرة من المجتمعات الأمية بمعزل عن هذه الوسيلة، إلى أن تم اختراع الإذاعة في العام 1920 ووسيلة الاتصال الجديدة هذه باتت أقوى وأعم وسيلة اتصال جماهيرية تدخل جميع المنازل وتخاطب الجميع من متعلم وأمي، وإمرأة ورجل، وطفل، وشاب.
وكان، ولا يزال لها تأثيرها الكبير فقد بسطت الثقافة أمام البسطاء وجعلتهم يتفاعلون مع هذه الوسيلة في مجالات تعليمية وترفيهية وتثقيفية عديدة، فرفعت من مستوى الشرائح الفقيرة وجعلتها عناصر مشاركة في المجتمع بشكل أكبر. لكن الانسان لم يتوقف عن التطور فتم اختراع التلفزيون مع نهاية أربعينيات القرن الماضي، وهذه الوسيلة السمعية البصرية أذهلت العالم وبات جهاز التلفزيون من الضروريات الحتمية في صدر كل منزل، حتى بات الوسيلة الأكثر انتشارا جماهيريا وانعكاساتها وتأثيرها على المجتمعات لا تحصى، فهي تقدم كل الأخبار، والبرامج السياسية والاقتصادية والثقافية والترفيهية. وبالطبع انعكاساتها على الأطفال الذين باتوا من أكثر المستهلكين لها.
وتطور البث التلفزيوني مع اختراع الأقمار الصناعية والحواسيب مع نهايات الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، هذا التزاوج مكن التلفزيون من البث المباشر على مئات الملايين من البشر حتى بات العالم قرية صغيرة حسب مصطلح العالم ماك لوهان.
الإعلام الموجه
هذه الوسائل الإعلامية الجماهيرية ولخطورة تأثيرها على الشعب جعلت الكثير من الدول احتكارها وتجييرها لصالحها فنشأ الإعلام الموجه ودخلت قوانين تحد من حريتها وتعاقب من يخالفها فبات الإعلام عموديا ساقطا من الأعلى إلى الأسفل ومنع الشعب من حرية التعبير باتجاه معاكس كونه لا يمتلك الوسيلة التي تمكنه من ذلك وهذا حال كل الديكتاتوريات في العالم التي مازالت تمارس هذه السياسة إلى اليوم، لكن الثورة الثالثة الكبيرة والمؤثرة والتي بات لها انعكاسات كبيرة وستكون لها في المستقبل انعكاسات أكبر وأخطر هي شبكة الانترنيت.
وهذه الثورة الإعلامية الكبرى أوجدت برامج وتطبيقات عديدة قلبت المشاهد الإعلامية رأسا على عقب. إذ باتت شبكة الانترنيت الحاضنة لكل الوسائل الإعلامية السابقة هذا من جهة، ومن جهة أخرى باتت كوسيلة إعلامية كونية أفقية، أي من مرسل إلى مستقبل في أي بقعة في العالم دون المرور عبر وسيط أي وسيلة إعلامية التي كانت في مجملها حكرا على السلطة. لقد أصبحت الانترنيت الوسيلة الأكثر شعبية فصارت الفيسبوك وتويتر ويو تيوب وانستغرام وسواها وسائل تواصل اجتماعي على مستوى العالم بأكمله ولها أكبر الأثر في المجتمعات والتواصل والتعليم والبحث وبالطبع كان ولا يزال لها أكبر الأثر في إثارة الثورات ( الربيع العربي مثالا )، بل أن الشريحة الشبابية اليوم لم تعد تستهلك الوسائل الأخرى من صحافة وإذاعة وتلفزيون التي يعتبرونها مسيسة وخاصة في العالم العربي، والتي بالطبع أوقع هذه الوسائل في أزمات مالية كبيرة وراح بعضها يفضل التوقف والاختفاء بعد النجاحات الكبيرة كمجلة لايف وريدرز دايجست وسواهما من الصحف والمجلات الكبرى وحتى قنوات إذاعية وتلفزيونية. هذا التطور المذهل لن يتوقف عند هذا الحد فاختراع الهواتف الذكية والتابليت وسواها من التقنيات الحديثة جعلت التواصل المجاني ( فايبر، سكايب، ماسينجر، واتس أب..) يقرب المسافات بل ويلغيها صوتا وصورة، وهذه التقنيات في التواصل قلبت المفاهيم القديمة رأسا على عقب، بل أن بعض المؤسسات كالبريد، والهاتف المنزلي لم يعد لها الأهمية نفسها.
هذه الثورات الاتصالية المتعاقبة كانت المحرك الأساسي في تطور المجتمعات وتبديل العادات والانفتاح على الآخر، ودمقرطة العلوم والبحث والفنون، وخلق مهن جديدة لم يكن يحلم بها أحد.. ولم يع حكام الأنظمة الديكتاتورية أن عهد احتكار الإعلام ولى الأدبار منذ زمن ولم يعد على الحاكم العسكري ان يفرض ببسطاله ما يشاء عبر وسائل إعلامه لأن الشعب صار يمتلك وسائله أيضا وهي الأكثر تأثيرا وانتشارا..
والثورات مستمرة..
كاتب سوري