لا ريب في أن نظرة المؤرخ لأحداث الثورات العربية ستكون احد العوامل البارزة في المستقبل، لاستقراء نتائج الأحداث الخارقة التي يحياها العالم العربي. ولا شك كذلك أن وعي المؤرخ لم يعمل عمله بعد بشكل ملحوظ وبين، حتى تبرز على الواجهة قراءة تتناول الأحداث بالمسافة التي تستلزمها خطة توثق هذه الأحداث، بحيث تتجاوز تسلسلها وتعاقبها لتصبح قابلة للتمحيص عن بعد وفي العمق. ثمة فروق كثيرة تطال المحلل الجيوسياسي والمؤرخ معا، أولها أن المحلل السياسي يشغل شبكة قراءته انطلاقا من أحداث آنية تأسرها سلسلة من العوامل المتلاحقة والتطورات المتسارعة، فيغدو التحليل عندئد، شأنه شأن الأحداث التي يعالجها، مستسلما لوتيرة يحكمها منطق ليس من السهل تحديد معالمه بموضوعية تمكن من استخراج ثوابت جديرة بتقديم مفاتيح واضحة لاستشراف المستقبل. والمستقبل، هو عين معيار قراءة المؤرخ، الذي يتميز أساسا بعمل مكرس بشكل كامل لارتياد آفاق حدث ما، ولكنه أيضا عمل لا يقع الحديث عنه كثيرا حاليا فيبقى الحلقة المفقودة لكثير من المقاربات . وهذا العمل، عمل الجرد والتوثيق، هو آلة المؤرخ المميزة، التي تسمح له بتحقيق ما لا يمكن ان يتحقق لغيره، أي بعبارة أخرى إدخال الآني والمتلاحق والمتطور في الإطار الجامع المبلور للذاكرة. ومؤرخو الثورة، هؤلاء الذين يشكلون الثغرة التي ينبغي سدها عن التحاليل الجيوالسياسية، لا بد من الدفع بهم إلى الواجهة، لأن لا قراءة جادة لأحداث ثورة من دون تشخيص لبنات أسست صرحا ثوريا. والصرح الثوري صرح فريد من نوعه، فسنوات الثورة الأولى، سنوات ‘الجمر’ الجديدة، بنات حقبة سجلت تقدما تكنولوجيا صاحبته منعرجات حادة أثرت مباشرة على كيفية ممارسة المواجهة والاعتراض ونشر الأفكار. فقد صارت تشكل سرعة انتقال المعلومات وانتشارها انتشار النار في الهشيم عاملا لا بد من أخذه في الحسبان. كما برزت قدرة لا تقل سرعة على التقاط هذه المعطيات، فارضة على القرارات شكلا جديدا يجعل من اتخاذها عملية مقيدة بعوامل موضوعية تدور رحاها حصرا حول ردود الفعل الفورية، وأهلية ‘الثوار’ لاستباق الأحداث قبل أن يتمكن منها الطرف الآخر. لكن يحصل، بل كثيرا ما يحصل، ألا تتناغم ردود الفعل الفورية مع القدرة على استباق الأحداث، لأن الأخيرة تستدعي قدرا كافيا من المسافة للتمحيص والتقدير والتدبر، بينما تساير الأولى بالطبيعة إيقاعا تفاعليا تطبعه مشاعر وأمزجة وأهواء، بصورة يمكن معها بسهولة أن يفيض الكأس وأن يطفح الكيل. وقد يحصل أيضا، بل كثيرا ما يحصل، ألا تبدو ردود الفعل ولا القدرة على استباق الأحداث عاملين فاعلين للتجاوب مع وقائع لا نملك دائما إلى فك شيفرتها وسيلة، بل في الغالب لا نملكها ولا يملكها أحد خلافا لما يدعي. إنه السفر، إنها الهجرة إلى عالم آخر، أبوابه مواربة أكثر مما هي مفتوحة، ولكن عمل التحليل والاستقراء يملك، في المقابل، قدرة على تحويل الواقع المجهول إلى واقع أقل جهلا، والباب المسدود أو الموارب إلى باب أقل انسدادا ومواربة. فبمقدور الاستقراء التاريخي ـ على الأقل- رسم اللون الذي يمكن أن يصطبغ به جزء من المستقبل، لأن الاستقراء التاريخي مقياس حرارة جدير بإعطاء مؤشرات واتجاهات عامة على ممارسات اجتماعية طبيعتها، كما شاهدنا جميعا، رقمية أساسا. فالسؤال الذي يبقى مطروحا هو كيف لمؤرخ القرن الواحد والعشرين، وهو الذي تجري عجلة الزمان أمامه دائما، أن يقدم تحليلا للأحداث يتوافق مع معيار المسافة والمقاربة الموضوعية من جهة، وإفساح المجال لمقاييس تأويل غير مؤدلجة لبناء استنتاجات تبتعد إلى أقصى حد ممكن من المغالطة من جهة أخرى؟ فالمؤرخ التقليدي ‘لم يعتنق العقيدة الرقمية’، أو لنقل ربما ‘اعتنقها’، فهو يستعين في النهاية بالآلات الرقمية لجمع المعلومات وغربلتها والتعقيب عليها، ولكن لا يعني هذا أن العملية أتاحت له أن يتكيف مع الطريقة التي تعاقد بها صانعو الأحداث الجديدة مع الزمن الجديد. وإن كان هؤلاء يستطيعون الدعوة إلى مظاهرة أو تصوير وقائعها، ثم تقديم هذا العمل إلى شبكات التواصل الاجتماعي وإلى الفضائيات، فلا يعني ذلك أبدا أنهم يمتلكون الكفاءة للتسول بهذه الأجهزة من أجل قياس مدى قدرة هذه الأحداث على ترك آثار بناءة للمستقبل. كأن بآنية الأحداث شرخا كبيرا يزداد اتساعا بمرور الأيام، وتزداد معها الفجوة بين ‘الناشط’ الثوري، والجمعوي الإعلامي، والمؤرخ ذي العلاقة المختلفة مع شؤون ساعته، زمانا وموقعا جغرافيا… الزمان أولا، فالتاريخ لا يملك أن يؤرخ لحركة ثورية ما لم تتبلور ملامح فكر ثوري قائم على تحديد طبيعة المؤسسات ومدى احترامها لما يسميه المحللون الحكم والحكم المضاد، أي الأغلبية والمعارضة، كما لا يملك المؤرخ أن يؤرخ لحركة ثورية ما لم تتبين له معها توجهات الأحزاب نحو مزيد من الليبرالية المتمثلة في فتح الباب واسعا امام آليات تكفل تعدد الآراء، وتضمن تحرير قطاعات كانت إلى حين محتكرة بما لا يترك مجالا لأي انفتاح ولا نقاش. وكما يستخدم المؤرخ آليات تحليله وفق ضوابط زمانية طويلة الأمد، فهو ينظر لتطورات الأحداث من باب الواقع أيضا. وهنا نصل الى نقطة الموقع الجغرافي الذي منه تؤمن معقولية التحليل، أو على العكس تفرط بها. فواقع الثورات العربية حتى الآن لا يزال وليد تسلسل وقائع ومطالب، هو افتراضي بامتياز، فالشعب والحرية ومحاربة الفساد، ثم توسيع طيف الفئات المشاركة في صنع القرار، وبعده أمل بناء مجتمع لا يحكم باسم إيديولوجيا المصالح الفئوية، ونعني بها ‘الجهادية’ ‘المتطرفة’ التي ينبذها الشعب العربي الرافض أن ترى النور استبدادية جديدة لنكون واضحين، كل هذه المكونات، التي يريد الآلاف من شباب الثورة كتابة غدهم بمدادها، لا تعدو كونها آمالا عريضة ليست مأمونة الجانب لحد الآن، وهيهات أن تكون كذلك، فيكفي أن ننظر إلى المشهد السوري كمثال… أجل، لقد افتقدنا في الخطاب العام الدائر حول الثورات العربية خطابا اساسيا هو خطاب المؤرخ، الذي لو طلب منه ان ينطق بلسان حال اختصاصه لنطق باسم المقولة الوحيدة، التي يمكنه الحديث بها حاليا، وهي مقولة الحيطة والحذر… أقول لو طلبنا منه… لأننا لم نفعل.