يشعر الإنسان بالتعاطف والشفقة والخوف تجاه أولئك الشباب العرب من الذين يواصلون العمل ويتحملون المشاق والعنت من أجل إيصال ثورات وحراكات الربيع العربي إلى نهايات معقولة تلبًّي الحدود الدنيا من الشعارات المبهرة التي طرحتها تلك الثورات والحراكات. إن المهمًّة كبيرة وثقلها هو أضعاف ما حملته الكثير من ثورات العالم في شتًّى بقاع الدنيا بسبب إرث تخلٌّف ضخم واستبداد متجذٍّر.
من بين أكثر الأحمال ثقلاً موضوع مكانة وحقوق ومسؤوليات المرأة العربية في مجتمعات الغد المنظور العربية . إنه موضوع لا يمكن تأجيله لانًه ينفجر كل يوم في وجوه الجميع، إضافة إلى أنًه موضوع مرتبط أشدً الإرتباط بنوع وشمولية وعمق وإنسانية التغيير المجتمعي العربي الذي تريد هذه الثورات والحراكات أن تحقًّقه.
من هنا الأهمية الكبرى لتجنُّب الوقوع في النظرات السطحية الخاطئة لهذا الموضوع وتجنُّب السُّقوط في الفخاخ التي تنصبها هذه الجهة أو تلك من أجل اختزال موضوع المرأة العربية إمَا في مواقف عدوانية جامدة متخلفة أو في ممارسات مظهرية تحقيرية لإنسانية المرأة، تخدم من لا يريدون للمرأة إلاُ أن تكون سلعة للبيع والشًّراء والإستهلاك الغرائزي المبتذل النَّهم.
قيادات الثورات والحراكات يجب أن تنأى بنفسها عن الدٍّخول في سجالات هذين الطًّرحين العبثيٍّين سواء أكان من قبل بعض الرجال أو كان من قبل بعض النساء في الداخل أو كان من قبل بعض المهووسين بهذه الطرُوحات في الخارج. وهذا النأي بالنفس عن المماحكات الطفولية البائسة ينسجم تماماً مع أهم شعار طرحته الثورات والحراكات : شعار الكرامة الإنسانية، والإنسانية تشمل الرجل الإنسان والمرأة الإنسانة، جسداً ومشاعر وفكراً وحقوقاً وفرص حياة.
ولما كان تاريخ المجتمعات البشرية قد أظهر بأن أحد أهم المداخل لترسيخ الكرامة الإنسانية في الواقع هو التطبيق الصّارم لمفهوم المواطنة، فانً التركيز على مقتضيات هذا المفهوم العملية في السياسة والإقتصاد والاجتماع والثقافة، خصوصاً في هذه المرحلة الحرجة من مسيرة الثورات والحراكات، سيكون الأفضل والأجدى كمدخل لرفع الظلم التاريخي الذي لحق بالمرأة العربية.
النظر إلى المرأة كمواطنة سينقل السٍجال من ساحات التعصُب والإبتذال الحالية إلى ساحة الحقوق الكاملة غير المنقوصة التي تنصُ عليها الدساتير والقوانين الدستورية، إلى ساحة المساواة في الفرص الحياتية (التعليم والصحة والعمل والأجر والسكن والمناصب وكل النشاطات الأخرى في المجتمع وسلطة الدولة)، إلى ساحة الأخذ بعين الإعتبار والاحترام الكامل لكل خصائصها الطبيعية : البيولوجية والوظيفية، إلى ساحة العدالة والمروءة، بعيداَ عن المقارنات السخيفة في أمور الجسد والمشاعر والفكر والقدرات والأحلام والطموحات والوظائف التي تخطًّتها مسيرة الإنسانية، وآن الأوان أن نتخطًاها نحن في وطن العرب.
إن تلك المقاربة السياسية والحقوقية لموضوع المرأة العربية لا يعني أبداً توقُّف الباحثين والمفكرين والناشطين العرب، رجالاً ونساءَ، من محاولة التوصل إلى نظرة فكرية إبداعية موضوعية إنسانية عادلة بشأن المرأة لتساهم في الخروج من المظالم والسوءات والحقارات التي أصابت المرأة عبر التاريخ البشري الطويل، في كل مكان، وإن بصور متفاوتة، وإلى يومنا هذا.
فكما أن النظرة المتعصٍّبة الجاهلة الظالمة المستخفًّة بحقوق وواجبات المرأة الإنسانية، والتي تمارس في كثير من مجتمعات العالم بما فيها مجتمعات الوطن العربي، هي نظرة غير عادلة ومرفوضة رفضاً تاماَ، فكذلك الأمر نفسه ينطبق على النظرة التي تتعامل مع المرأة كمصدر أساسي لتحريك وإشباع الغرائز الحسيًّة والجنسية.
إن تلك النظرة تتمثًّل عملياً في الإستعمال البذيء التحقيري لجسد المرأة وتعبيراتها الحركية في الإعلان عن كل بضاعة، في تسويق كل منتج، في الإغواء نحو كل صرعة وكل موضة وفي خلق كل حاجة إستهلاكبة تبذيرية غير ضرورية . إنها تتمثًل أيضاً في إمبراطوريات صناعة المكياج التي قلبت المرأة إلى لعبة للتسلية وفي عمليات تجميل وشدٍّ وإخفاء وتكبير وتصغير لكل ملمح فى وجه وجسد المرأة وإلى إمعان متصاعد في تعرية المرأة كبضاعة وكجذب.
هكذا تشيَّأت المرأة واصبحت بضاعة في الأسواق العولمية الإستهلاكية لتخدم جشع الراسمالية المتوحٍّشة المنفلتة من كل قيم ومن كل إلتزام.
إنها النظرة الثقافية العولمية تجاه المرأة والتي ترفع لواءها بعض المجتمعات وتريد أن تجعل منها ثقافة كونية.
من هنا فان ثورات الربيع العربي التي أبدعت في ممارسة مناهج ثورية جديدة وأبهرت العالم مطلوب منها أن تساهم، إن لم يكن حالياً ففي المستقبل، في تشجيع مفكٍّريها وعلماء اجتماعها ومراكز بحوثها للخروج من النَّمطين البليدين السَّابقين إلى رحاب نظرة ثقافية إنسانية تنقل المرأة من نظرات وممارسات التشًّيئ والتبضيع التحقيري نحوها من جهة وكذلك من التعصًّب الظالم الإستعبادي تجاهها من جهة أخرى.
موضوع المرأة في قلب ثورات الربيع العربي والتعامل معه سيقرٍّر مدى نجاح وسموٍّ تلك الثورات.
كل من عاش لفترة ما في بلاد الغرب او تابع تاريخهم يدرك تماما مدى عنصريتهم واستعلائهم وغطرستهم رغم التقدم العلمي الكبير الذي حققوه في العصر الحديث. ولقد قرأت كتابا بعنوان ” المرأة في الاسلام والمرأة في العقيدة اليهودية والمسيحية بين الاسطورة والحقيقة ” من تأليف الاستاذ شريف عبدالعظيم اتمنى ان يقرأه جميع المواطنين العرب !. نعم ان لدينا ارثا ضخما تراكمت فيه السلبيات الى درجة الطغيان على الأيجابيات في كثير من الأمور. ولعل ثورة شعوبنا الحالية تنفض هذا الغبار المتراكم شيئا فشيئا ليعود وجهها الوضّاء كما كان وأحسن. وعلى الغرب الاستعماري ان يعلم علم اليقين باستحالة اطفاء شعلة الثورة العربية الكبرى التي سيمتد أثرها الى كل شعوب العالم شاء من شاء وأبى من أبى. انهم يتباكون -بكاء التماسيح-على حقوق المرأة والطفل و.. في مجتمعاتنا وهم من يهددون حقنا في الحياة الحرة الكريمة والشواهدلا تحصى وماثلة امام اعيننا . واذا ما طبّقنا مبادئ ديننا الحنيف في حياتنا اليومية فلسوف يحصل كل ذى حق حقه كاملا غير منقوصا والمرأة في المقام الأول. إن التاريخ لا يعرف ديناً ولا نظاماً كرَّم المرأة بإعتبارها أماً, وأعلى من مكانتها مثلما جاء بهِ دين محمد صلى الله عليهِ وسلم الذي رفع من مكانة الأم في الإسلام وجعل برها من أصول الفضائل, كما جعل حقها أعظم من حق الأب لما تحملته من مشاق الحمل والولادة والإرضاع والتربية، وهذا ما يُقرره القرآن ويُكرره في أكثر من سورةٍ ليثبِّته في أذهان الأبناء ونفوسهم.
يكفي ان نتفهم المعاني السامية وراء هذه الآية الكريمه: ” {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}.