يطلق الباحث الفرنسي في السياسة وعلم الاجتماع أوليفييه روا على الاحتجاجات الشعبية الشهيرة التي انتظمت في فرنسا عام 1968 اسم الثورة الإنثروبولوجية، وهو يعتبر بذلك أنها وإن كان لها مظهر سياسي، إلا أنها كانت في المقام الأول ثورة على المفاهيم الاجتماعية. مهدت تلك الأحداث التي كانت فريدة من نوعها لتغييرات ليبرالية عميقة، تم الترويج لها كامتداد لثقافة عصر الأنوار، خاصة في ما يتعلق بالتصدي لدور المؤسسة الكنسية.
تحجيم الكنيسة عبر تقليص دورها حتى على المستوى الأخلاقي، ودعم الخيارات الفردية كانا العنوان الأكبر لثورة 68. تجلى كل ذلك في المسألة الجنسية بتنويعاتها المختلفة المرتبطة بحرية الممارسة واحترام العلاقات الإنسانية، بما فيها تلك العلاقات التي كانت ينظر إليها بتجريم واتهام سابقاً. كذلك سادت في حقبة ما بعد الثورة المناداة بتحرير الزواج نفسه من القيود، وفتح الخيارات أمام الراغبين في الانفصال، حتى في البلدان والمجتمعات التي كانت أكثر تمسكاً بالكاثوليكية.
الثورة الأنثروبولوجية، حسب روا، تعني الانتقال من مربع القيم التقليدية التي كان تجد إجماعاً باعتبارها خيراً مطلقاً من الناحيتين الأخلاقية والدينية، إلى مربع الحداثة، الذي حاول إعادة تعريف هذه القيم، وجعلها مبنية على مفاهيم الفردانية والحرية وتقييم الرغبة. الأمر على هذا النحو كان يتجاوز «علمنة الكنيسة»، أي الاحتفاظ بقدسيتها مع النأي بها عن النطاق السياسي، إلى ملاحقة دورها حتى في النطاقات الضيقة التي كانت تحتكرها كنطاق الوعظ الأخلاقي. كانت الاحتجاجات الفرنسية، كما غيرها من الاحتجاجات، مطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية، رغم ذلك فهي لم لم تكن احتجاجات يسارية أو عمالية بالمعنى التقليدي. في الحالة الفرنسية لم تؤد الاحتجاجات، التي يفضل البعض إطلاق تسمية ثورة عليها، لأي تغيير سياسي واضح، أو أي تبدل في مخططات الحكومة، التي كانت تسعى لتبني أفكار اقتصاد السوق الحرة المعولم، بل سرعان ما ستنفصل تلك «الثورة» عن أجنحتها السياسية التي بدا أنها وصلت إلى قناعة فحواها، أن السباحة ضد تيار العولمة الجارف قد تكون مميتة، وأن الأولى هو التركيز على تحقيق تحول أخلاقي وتغيير على المستوى الاجتماعي. يبدو ما حدث أمراً أشبه بالمقايضة، استغلال حماس الشباب الذين كانوا يشكلون عماد تلك الاحتجاجات، وتوجيه اهتمامهم من تحقيق تغيير جذري في مسائل السياسة والاقتصاد، إلى الانشغال بالثورة الاجتماعية، وتغيير التشريعات والنظم، بما يكسر كل القيود التي قد تمنع الإنسان من الوصول إلى رغباته بالطريقة التي يراها مناسبة.
الثورة الأنثروبولوجية حسب أوليفية روا تعني الانتقال من مربع القيم التقليدية، إلى مربع الحداثة
خلال تلك الأيام ظهر الجنس كقنبلة لا يستطيع أحد الوقوف في وجهها. كان من مظاهرها التوسع في جميع العلاقات التي يسودها الرضا المتبادل بين الطرفين تكريساً لمبدأ الحرية كقيمة سائدة. هذه القنبلة التي بدأ حجمها في التزايد منذ أواخر الستينيات لم تلبث أن انفجرت في وجه مجتمعها، مع ظهور ما يعرف بالفضائح الجنسية للكنيسة الكاثوليكية، التي أظهرت أن هناك مئات من الحالات الموثقة عن الاعتداءات وأعمال التحرش والاغتصاب التي وقعت داخل أروقة الكنيسة وكان ضحاياها من الأطفال. ما جعل الأمر يتحول لصيحة عالمية تنادي بملاحقة المتحرشين والمنحرفين. الليبراليون، الذين باتوا يمثلون الهوية الأوروبية بشكلها الجديد، رأوا في فضيحة الكنيسة مسوّغاً جديداً لإسكات رجال الدين، الذين ظلوا لعقود يشكلون عائقاً أمام تمرير مشاريع «التطوير» بسبب السلطة التي كانوا يحظون بها في قلوب المؤمنين.
بسبب مشاركة أعداد كبيرة من النساء والفتيات في أحداث مايو 1968 لم يقتصر الأمر على المطالبات الجنسية في نطاقها الضيق، ولكن تعداه لما يتعلق بالأسرة وبمجمل العلاقات الاجتماعية، حتى وصل الأمر للتساؤل عن معنى التقسيمات الكلاسيكية بين ذكر وأنثى، وهو سؤال أكثر تعقيداً مما يبدو عليه، لأنه سيقود للقول إن الفروق ذات العلاقة بالنوع، هي فروق ثقافية وليست فروقاً طبيعية، وهو ما عبرت عنه الكاتبة النسوية سيمون دي بوفوار بقولها: «نحن لا نولد نساء ولكننا نصبح نساء»، أي أن المجتمع وطريقة التربية هي التي تجسّد ذلك الاختلاف الذي لا مكان له في الواقع، وهي مقولة ستلخّص جوهر المساعي النسوية التي لن تكتفي باستهداف سلطة الرجل، وإنما ستحاول نسف الأسس والحجج التي قامت عليها هذه السلطة من أساسها. لم يتغير الواقع الأوروبي بين يوم وليلة، ففي حين أخذت القوانين التي تساوي في الحقوق بين الزوجين، والحق في الطلاق، بضع سنوات حتى أصبحت مستساغة وفاعلة، أخذت قوانين أخرى متعلقة بتقنين الإجهاض أو زواج المثليين عقوداً من الزمن حتى أصبحت مفعّلة في عدد من البلدان. الأكيد هو الدور الذي لعبته أحداث 1968 في كل ذلك، خاصة القطيعة التي صنعتها، والتي انفصلت بها عما كان يعرف من أخلاق سائدة.
الاستشهاد بأوليفييه روا ليس مصادفة، فهذا الباحث الذي اشتهر بالكتابة عن الإسلام والحركات الإسلامية وما يرتبط بذلك من علاقة مع أوروبا ضمن قضايا «الجهاد الدولي» والهجرة وأسلمة المجتمع، عاد ليتساءل في لقاءاته الأخيرة عن الأمر بشكل جديد، ليكون السؤال هو التالي: هل الإسلام فعلاً هو التهديد الذي يواجه أوروبا؟ وهل يشكل ذلك الدين خطراً فعلاً على الهوية الأوروبية؟ وما هي الهوية الأوروبية التي يجب حمايتها، هل هي هوية مسيحية؟ العبارة الأخيرة «هل أوروبا مسيحية؟» هي العنوان الذي اختاره روا لكتابه، وهو عنوان لن تكون إجابته سهلة، لأنه يضعك أمام خيارين متناقضين، حيث لا يمكن أن تكون أوروبا مسيحية تخاف على دينها من تقدم المسلمين، وعلمانية تساوي بين الأديان ولا تحابي ديناً على آخر في الوقت ذاته.
إن ما يحكم أوروبا الآن هو تلك المفاهيم الحداثية التي يعتبر روا أنها نتاج لثورة مايو الأنثروبولوجية، وهي مفاهيم ليست متسقة مع القيم المسيحية الكلاسيكية، بل تبدو في كثير من الأحيان معادية لها ومناقضة لها (ثقافة موت: إجهاض، لا عائلة، مقابل «ثقافة الحياة» المسيحية). بهذا لا تصبح المسيحية معبرة عن «الثقافة المهيمنة» بل مضادة لها، وهو ما جعل بعض المثقفين الأوروبيين ومنهم روا نفسه، يستخدمون تعبير «المسيحوفوبيا» للتعبير عن تلك الحالة من الهوس بملاحقة الكنيسة، والسخرية من تعاليمها. بهذا المنطق لا يمكن القول إن الإسلام غير مقبول أوروبياً لتناقضه مع الهوية المسيحية، بسبب أن تلك الهوية قد تقلصت لتصبح مجرد أصداء ثقافية، وأيضاً بسبب كون تعاليم الإسلام، خاصة في ما يتعلق بمسألة الأسرة، أقرب للقيم المسيحية الأصلية التي تبدو مهمشة الآن.
كاتب سوداني
المتدين يؤمن بحياة بعد الموت وبخالق للكون وقوانينه وللكائنات وللإنسان ومتابع لهم بتعاليم نصائح وتحذيرات وأوامر ونواهي وحوافز وعقوبات لحفظ نفس وعرض ومال وأسرة ومجتمع وأخلاق وعدالة وخلق آدم وذريته بعقل مهيأ لإيمان واكتشاف وابتكار وحرية اختيار لكن غير المؤمن يعتبر الموت نهاية لا حياة بعدها والكون صدفة وأحياء تطورت عبر الزمن من خلايا أحادية لنبات لحيوان لإنسان قرد لآدمي بطفرات جينية آخرها طفرة آدم وذريته طورت لديهم عقل مهيأ لاكتشاف وابتكار وتطور علمي وحرية اختيار فاختار مليارات الإيمان بأديان سماوية