الثورة التي خرجت ولم تعد

حجم الخط
0

كثيراً ما تُستحضر حماسة الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشال فوكو للثورة الإيرانية، غداة زيارته لطهران عند اشتداد أوار هذه الثورة أواخر العام 1978، وكتابته «ريبورتاجات فلسفية» على هامش أحداثها لصحيفة «كوريري دي لا سيرا» الإيطالية.
ما يجري إغفاله في غمرة التنازع بين من يرى في موقف فوكو من إيران عمق بصيرة، وبين من يراه قصر نظر، أن فوكو نفسه في كتاباته عنها تجنّب استخدام ملفوظ «الثورة» تماماً، وتناولها بصفتها «قومة»، وهو ما نتخيره لترجمة soulèvement، وعندما احتاج لاستعارة يصقل بها وصفه لهذه القومة عمد الى تشبيهها بالزلزال.
تكرّر الأمر مع فوكو حيال احتجاجات عمال بولونيا، مرة جديدة أيّدها باندفاع كلي، لكنه لم ير فيها لا ثورة ولا تباشير ثورة، فهو تعامل سواء بسواء مع الزلزال المتفجر الإيراني أو مع الزلزال الناشب البولوني كمغادرة لمنطقة من التاريخ كانت محكومة بمفهوم «الثورة».
لم يكن هذا حال الثورة الإيرانية نفسها، التي تعلّقت بمفهوم «الثورة» (استقر المفهوم الحديث للثورة على «انقلاب» في كل من الفارسية، والأردية، والتركية ـ العثمانية، قبل أن تعدل عنه اللغة التركية الجديدة في القرن العشرين)، ولم يتردّد الإسلام الحركي الشيعي الإيراني، حتى مع انعطافته الحاسمة باتجاه نظرية ولاية الفقيه المطلقة الشرائط الخمينية، في تبني واعادة تلبيس المقولات الثلاث، الثورة والدستور والجمهورية، التي مانع أمامها الإسلام الحركي السني في جنوب آسيا كما في الأقطار العربية مطولاً. أكثر من هذا، صاغت الثورة الإيرانية وعيها النظامي لنفسها، بمحاكاة الموضوعة الماوية حول «الثورة المتواصلة على مراحل»، أي الثورة التي لا يأتي يوم يعلن فيه النظام المنبثق عنها العدول عن منطق الثورة الى منطق الدولة، بل تنعقد كل السردية على المواءمة بين المفهومين، الدولة والثورة.
عندما احتفى فوكو بمنتفضي إيران وبولونيا اذاً، كان يسجّل في نفس الوقت ان مفهوم الثورة، كأي مفهوم آخر في التاريخ، له زمن نشأة وتطور وانقطاع، قبل أن ينساب أو يغرق في مفاهيم جديدة. ويبدو هذا مناقضا لخيار الإيرانيين المنتفضين أنفسهم التمسّك بمفهوم «الثورة» في قومتهم على الشاه محمد رضا بهلوي. وحتى الشاه نفسه، فقد سبق له تبني المفهوم عام 1963 يوم أطلق سلسلة عمليات التحديث والاصلاح الزراعي والتصنيع تحت مسمى «انقلاب سفيد» أو «الثورة البيضاء».
ما بين ريمون آرون الذي كتب عن ثورة لم نعد نلقاها ابان انتفاضة أيار 1968 الفرنسية، وبين فرنسوا فوريه الذي جعل شغله الشاغل كمؤرخ، اختتام الثورة الفرنسية نفسها، بالحط من قدر المنقلب اليعقوبي الجذري في مسار هذه الثورة، مع روبسبيير ومارا وسان جوست، بوصفه ارتداداً عن وعود الحرية في أيام الثورة الأولى، يوم كانت الثورة نفسها لا تزال تحبو في ظل «الملكية الدستورية»، كان فوكو يسلك مساراً مختلفاً كلياً. لم يكن بحاجة الى اختتام ثورات، أو لفت الانتباه الى تيه المفهوم من كثرة مسرحته «السيكودرامية» كما يقول آرون. استطاع فوكو الأخير أن يجمع بين اثنتين: ادراك أن مفهوم الثورة لم يعد ارتكازياً في زمن الحداثة المتأخرة، وأن الزمن مع هذا لا يسير لا الى الاستقرار اللاثوري، ولا الى الركود، بل الى تغيّر في مفهوم التغيير نفسه، الى خروجه من الصندوق «ثورة» الى ما تلمّسه فوكو في نصه عن إيران على أنه قومة، وعلى أنه دخول في منطقة من الزلزال التي «تصنعها» الجموع.

الرغبة في التكرار المسرحي للثورة الفرنسية الكبرى ألهت ثوار 1848 عن تفكر ثورتهم نفسها

«والقومة» هنا، التي نقابل بها مصطلح فوكو الفرنسي، تشترك في اللفظ مع مفهوم «القومة» عند الشيخ عبد السلام ياسين (ت 2012) مرشد جماعة العدل والإحسان المغربية، الذي فضّل «القومة» من حيث هي تيسير لا تعسير، على جذرية الثورة، وأصّل القومة بالرجوع الى الآية القرآنية (كونوا قوامين لله شهداء بالقسط). يرمز ياسين، على ما أسلفنا، الى تفاوت في الإسلام الحركي، بين شيعته وسنّته، لجهة تبني مفهوم الثورة، مع صعوبة الاكتفاء بمقولة الإصلاح في نفس الوقت، والحاجة الى تعدّيها. في المقابل، ترتبط النقلة من زمن الثورات في الحداثة الى زمن القومات في الحداثة المتأخرة عند فوكو بانتقال الصراع نفسه من صراع حول السلطة على الرقاب (حيث السلطة هي تقرير من يعيش ومن يموت) الى السلطة على اعادة انتاج الأجساد نفسها (حيث السلطة هي من يتحكم باعادة انتاج هذه الأجساد).
هل فعلا انتهى تاريخ الثورات قبل نهاية القرن الماضي؟ هناك شيء ما انتهى. وهناك اختلاف على تعيين متى انتهى هذا الشيء. فادغار مورين مثلا، كانت له نظرة اعتبر فيها ان ما حصل عام 1989، يوم تصادفت المئوية الثانية للثورة الفرنسية مع انهيار المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية، ان سلحفاة 1789 سبقت في نهاية المطاف الأرنب البري لعام 1917، أرنب البلاشفة. ويعني ذلك انه من جهة، صار مراد شعوب شرق أوروبا استحضار ارث 1789 نفسها للتخلص من تركة 1917، وانه من جهة ثانية، بات بمستطاع ثورة 1789 تجاوز ما علقت به طيلة القرن العشرين، من خارطة احالات ومزاوجات بين الثورتين الفرنسية والروسية.
إلا ان مفهوم الثورة ككل دخل أزمته الفعلية منذ نهاية الستينيات، سواء من خلال البون الشاسع بين الانتظارات الثورية وبين المآل غير الثوري لانتفاضات 1968 في فرنسا وغيرها، أو من خلال الدرك الذي سارت اليه «الثورة الثقافية البروليتارية العظمى» في الصين. إذا كانت الثورة ضاعت من يومها، بالعودة الى موقف ريمون آرون «الليبرالي ـ المحافظ» يومها، أو أنها خرجت ولم تعد، فان اللافت ان انتفاضة الفلاحين الفقراء التي انطلقت من ولاية البنغال الغربي في الهند أواخر الستينيات، ونظر اليها وقتها على أنها بداية ثورة كبرى، أي انتفاضة «النكساليين»، لم تخمد. من 1968 الى اليوم، التمرد النكسالي هو أطول تمرد بهذا المدى، ولا يزال المتمردون الماويون – النكساليون يسيطرون على مساحات من الهند، في حين آثرت فصائل نكسالية اخرى ترك السلاك والانخراط في اللعبة السياسية السلمية ضمن ولاياتها. 1968 الهندية لا تزال مستمرة، كما يشدد برنار دميلو في كتابه عن هذا التمرد الفلاحي المتواصل في دولة «نووية».
النكساليون ثوريون. يتمسكون بمفاهيم العنف الثوري وحرب الشعب طويلة الأمد، لكنهم لا يقدمون تمردهم المتواصل على انه تجذر وصار «انقلابا شاملا يشمل المجتمع بأسره»، أي ثورة.
يكثّف النكساليون على طريقتهم أحد أوجه الانقسام حول مفهوم الثورة اليوم. ثوريون بلا ثورة، تقابلهم ثورة لا ثورية.
يوضح ذلك مثلا تشدّق ناشطي المجتمع المدني اللبناني بمفهوم الثورة، من دون ان يراد بها انقلابا ثوريا يشمل المجتمع بأسره. ولا حتى ثورة تكتب دستورا جديدا للبلاد. انما يراد من التمسك بالمفهوم، ان تكون ثورة انطباعات، ثورة على الذات. ان لا يشبع مدلول كلمة انتفاضة هؤلاء الناشطين فيه ما يخبر عن الانقسام في حال عالمنا اليوم: ثوري بلا ثورة (ثوري فعلي في حال النكساليين، ووهمي بشكل مرضي في حال أسرى الاوهام الايديولوجية النوستالجية عبر العالم) يقابله ثائر انطباعي من «ثورة لا ثورية»، مرة لأنها ليست بجذرية ثورة ولا تريد ان تحمل مدلولا جذرياً، ومرة لأنها ليست نقدية او تفكيكية لمفهوم الثورة نفسه، الذي هرم أو تجاوز نفسه من فائض استعماله في القرنين الماضيين. ثورة خرجت ولم تعد، اذا ما حاكينا ريمون آرون.
غداة ثورة شباط/فبراير 1848 على الملكية الدستورية في فرنسا، كتب المفكر الاجتماعي التحرري بيار جوزيف برودون جملة بقيت مبهمة: «لقد قمنا بثورة من دون أفكار». يبدو هذا مستهجنا اذا ما تذكرنا كم الأفكار والفلسفات المؤثرة على المشهد يومها، لكن برودون كان يلفت بمعنى من المعاني، الى ان الرغبة في التكرار المسرحي للثورة الفرنسية الكبرى ألهت ثوار 1848 عن تفكر ثورتهم نفسها. وهذه مقاربة نجدها بصيغتين مختلفتين، ومتنابذتين موقعا، عند ماركس وتوكفيل ايضا. ما لاحظه آرون أن هوس الإعداد المسرحي غلبت عليه الدراما الفعلية في القرن التاسع عشر، في حين غرق في «السيكودراما» عام 1968. ربما كان على ريمون أن يعيش بعد أكثر، ليتملى في السيكودراما على الطريقة اللبنانية.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية