تشهد الساحة السودانية منذ يوم الإثنين تصعيداً خطيراً في المواجهة بين الطغمة العسكرية والحراك الشعبي. فقد اختارت زمرة الجنرالات المتشبّثة بمقاليد الحكم أن تصعّد القمع إزاء الحراك بعد أن يئست من اضمحلاله تلقائياً بمفعول الإرهاق والضغط المعيشي، وبعد أن كادت تستنفد سبل شقّ صفوف المعارضة الشعبية إثر إخفاق المناورة التي قامت بها بمعونة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك وبدفع من فولكر بيرتس، ممثل الأمم المتحدة في السودان، الذي يقوم بدور خطير في مساعدة الزمرة العسكرية على تثبيت أقدامها متذرّعاً (أو مقتنعاً، إن كان الرجل من السذاجة إلى هذا الحدّ) بأنه يساعد البلاد على العودة إلى المسار الانتقالي.
هذا وقد دعت «قوى الحرية والتغيير» (المجلس المركزي) إلى عصيان مدني شامل يومي الثلثاء والأربعاء احتجاجاً على القمع الدموي الذي واجهت به الطغمة الحراكَ الشعبي يوم الإثنين.
أما المحصّلة العامة فهي أن أوضاع السودان برمّتها على كفّ عفريت عند كتابة هذه السطور (صباح الثلثاء) إذ تمرّ الثورة السودانية بإحدى أخطر المراحل التي عرفتها منذ انفجارها في نهاية عام 2018. ومن المؤكد أن البلاد لا تستطيع أن تبقى معلّقة إلى الأبد بين زمرة جنرالات متشبّثة بالحكم وحركة شعبية تطمح إلى إسقاطها وإحلال حكم مدني ديمقراطي محلّها.
أما لبّ المشكلة فيكمن في أن القيادة العليا للقوات المسلّحة السودانية مصرّة على المحافظة على الامتيازات العظيمة التي نعمت بها خلال ثلاثين عاماً من الحكم العسكري بزعامة عمر البشير. فهي لم تقبل بالمساومة في صيف 2019 سوى لأنها خشيت من انشقاق صفوف الجيش النظامي. واختارت آنذاك أن تراهن على مرور الزمن من خلال تسوية حرصت على أن تكون لها الغلبة فيها في مرحلتها الأولى، بحيث تسعى وراء قلب الأمور قبل حلول المرحلة الثانية ومعها موعد تسليم الرئاسة إلى المدنيين. ولمّا أخفقت كافة مساعي الطغمة، ومنها الجهود التي بذلتها لشقّ صفوف الحركة الشعبية السودانية (لاسيما «تجمع المهنيين» و«قوى الحرية والتغيير») ومنها أيضاً «استراتيجية التوتّر» التي تضمّنت محاولة اغتيال حمدوك ومسرحيات تمرّد عسكري وغيرها من الألاعيب الخبيثة، لمّا أخفقت كل هذه المناورات، قامت الطغمة بانقلابها قبل ما يناهز ثلاثة أشهر استباقاً لموعد تسليم منصب الرئاسة.
وبذلك قضت، وبفعلها هي، على إمكانية اجتذاب قسم من الحركة الشعبية الديمقراطية إلى مواصلة السير على درب المساومة مع الحكم العسكري، أي ما يُطلق عليه في السودان تسمية «الهبوط الناعم». وأقنعت الجميع بأنها لا تنوي المساومة، ولو بحدّ أدنى، على تمسكّها بزمام الأمور. هذا الوضع بطريقه المسدود يحيلنا إلى ما وصفناه على هذه الصفحات بأنه معضلة الثورة في المنطقة العربية. كان ذلك قبل يومين من قيام القوات المسلّحة السودانية بخلع عمر البشير عن السلطة في ربيع عام 2019، في مقال علّق على الحراكين الشعبيين في السودان والجزائر تحت عنوان «الانتقال والمعضلة في السيرورة الثورية العربية» («القدس العربي» 9/4/2019). فلننظر في وصف «المعضلة» الذي تضمّنه المقال، على ضوء التطورات التي شهدتها السودان منذ خلع البشير. فقد جاء فيه ما يلي:
أما لبّ المشكلة فيكمن في أن القيادة العليا للقوات المسلّحة السودانية مصرّة على المحافظة على الامتيازات العظيمة التي نعمت بها خلال ثلاثين عاماً من الحكم العسكري بزعامة عمر البشير
«هنا تكمن معضلة السيرورة الثورية العربية شأنها في ذلك شأن كافة الثورات العميقة التي تستهدف تغييراً جذرياً في النظام السياسي والاجتماعي، الذي يرتبط جهاز الدولة به دائماً ارتباطاً عضوياً. فالأجهزة المسلّحة هي العمود الفقري لأي دولة ونظام سياسي اجتماعي… وقد حلّت كافة الثورات الجذرية في التاريخ تلك المعضلة إما بضعضعتها الأجهزة المسلّحة القائمة بحيث انحاز رجالها إلى الحراك الثوري، أو بتشكيلها قواتً مسلّحة مضادة تمكّنت من الانتصار إثر حرب أهلية.
طبعاً لا يسعنا سوى أن نتمنّى أن يسود السيناريو الأول في منطقتنا، وهو وحده الكفيل بإبقاء العملية الثورية «سلميّة، سلميّة» بحدّ أدنى من سفك الدماء… بيْد أن هذا الأمر يتطلّب درجة عليا من المشروعية الشعبية للحراك بحيث يطال أفراد القوات المسلّحة، إذ إنهم من أبناء الشعب، ويحثّهم على الالتحاق بالحراك رغم أنف قادتهم أو جزء من هؤلاء على الأقل. كما يتطلّب درجة عالية من الوعي السياسي واليقظة الثورية لدى الحراك وقياداته، بحيث تتمكّن هذه الأخيرة من إدارة الدفّة حتى يبلغ مركب الثورة الضفّة الأخرى بدل أن يقع في شرك النظام القديم بما يتيح لهذا الأخير الاستمرار، ولو بوجه آخر». (انتهى الاقتباس)
لقد أثبتت قيادة الحراك الشعبي السوداني أنها تتحلّى بالمؤهلات الموصوفة مهما وردت من تباينات في صفوفها. فقد بقيت حريصة على إنجاز الانتقال الديمقراطي ولو اختلفت الآراء داخلها على سبل إنجازه، وقد تكفّلت التجربة بأن تعيد توحيدها في ميدان النضال ضد الطغمة الانقلابية التي لا حنكة السياسية لديها على الإطلاق (وكيف تكون محنّكة وقد وصلت إلى مناصبها في ظلّ نظام البشير العفن) بحيث لم تنجح سوى في ألب كافة الديمقراطيين، حتى أقصاهم «اعتدالاً» على نفسها. كما أن مشروعية الحراك الشعبي السوداني جليّة جلاءً تاماً، يثبتها كل يوم احتشاد الجماهير الغفيرة احتجاجاً على الانقلاب بالرغم من أساليب القمع الشنيعة التي تتعرّض لها.
أما الحلقة الناقصة التي لا بدّ منها كي يكتمل مسلسل الانتقال الديمقراطي، فهي أن يُخاطب الحراك الشعبي، قيادة وقاعدة، وبصورة مباشرة وعلانية أفراد القوات المسلّحة النظامية ويحثّهم على الالتحاق بالحراك رغم أنف قادتهم. ولن نكلّ عن أن نردّد أن مصير الثورة السودانية إنما يتوقف على نجاح الحركة الشعبية في كسب عطف الجنود والضباط الوطنيين الذين يرون أن واجبهم هو الذود عن الشعب وليس تمكين زمرة الجنرالات مصاصي دماء هذا الشعب، بما فيه أبنائه الذين يرتدون البدلة العسكرية.
كاتب وأكاديمي من لبنان
ان شاءالله الى……………قلع جذور الهمجيون القتلة الارهابيون العساكر الرعاع
لاحول ولاقوه الا بالله..