الثورة السودانية: اتركوني لا أستطيع أن أتنفس

عندما تخنق الأنظمة شعوبها، تنفجر الحناجر طلباً للحرية، أحداث السودان الحالية، تُظهر أن خنق الشعب السوري، أو جمال خاشقجي، وتقطيعهما، لن ينفع أنظمة الجُبن، بإسكات أنفاس الشعوب بهذه البلاد، إن لم تمت خنقاً، فستموت جوعاً أو مرضاً.
لم يعد عند الشعب السوداني ما يخاف عليه، بعد ثلاثين عاماً من السيطرة المُطلقة على السلطة، فالجنوب قد تم فصله بعد حرب استمرت عشرون عاماً، قضت على حوالي مليوني إنسان بريء، وانتهت عام 2011، باستقلال وانفصال جنوب السودان، مُجرداً بذلك السودان من معظم موارده النفطية.
لم يستفد الجنوبيون من هذا الانفصال لسوء الحظ، فهم بدورهم سقطوا في براثن حكم استبدادي، عشائري، مافيوي، أوصلهم إلى حرب أهلية، وقتل أكثر من 200 ألف إنسان بريء، وتدمير آلاف القرى والمناطق الزراعية، وانتشار الفقر والمرض والعنف بكل أشكاله، هذه التجربة لم تكن لتتم لولا خطايا السياسات المُتبعة من قبل البشير وزمرته، ولصالح أمريكا وإسرائيل، وللإفلات من المُلاحقة القضائية لمحكمة الجنايات الدولية، لعام 2009، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
حرب مناطق غرب السودان، ما يُسمى بدارفور، أدت هي أيضاً منذ سنوات لمقتل ما يُقارب 300 ألف مواطن بريء، فقير، نساء وأطفال ورجال، لم يطلبوا شيئاً غير تطوير مناطقهم المُهمشة.
هذه الحروب الطويلة المُكلفة، جنوباً وغرباً، بالإضافة لتمرد شرقاً، كلفت وتُكلف السودان كافة موارده، ولا يبقى شيء للتنمية الاقتصادية أو القطاع الصحي أو التعليمي.
هذا النظام العسكري لم يعرف منذ بدايته إلا العنف، العنف ضد شعبه بمختلف مكوناته، والعنف حتى مع رفاقه الإسلاميين، عند انقلابه على الديمقراطية، عام 1989، بصحبة حسن الترابي، والذين همشهم ووضعهم في السجون.
دفع السودان من لقمة عيش أبنائه، ثمن هذه الفاتورة الباهظة، لذلك، وبعد صبر أيوب، خرج الشعب للشوارع، للمناداة بإسقاط النظام وإنهاء القمع والاضطهاد، والتفقير والاستبداد بالسلطة، بدون كفاءة ولا مقدرة.. وهو حكم العسكر، كما نرى بمصر، أو كما رأينا سابقاً، بدول أخرى بعيدة، مثل تشيلي أو البرازيل، ترتكب الأخطاء نفسها، وتصل إلى النتائج نفسها، وهو الزوال والاختفاء.
زيارة البشير لبشار الأسد، قبل بضعة أيام من الاحتجاجات الشعبية، قادماً من موسكو، راعية الديكتاتوريات، كان كمن يطلب النصيحة، ويحاول أن يُطمئن نفسه، ويتعلم أساليب البقاء، ومواجهة الشعب، من سادة اللعبة في موسكو ودمشق.
ما قد لا يتذكره الجنرال البشير، هو أن الشعب السوداني، كان قد أسقط مرتين، بأواسط الستينيات والثمانينيات، ديكتاتوريات عسكرية شبيهة بحكمه، واستطاع زمنها، فرض حكومة منتخبة ديمقراطياً، قبل عودة العسكر بانقلابهم المشؤوم، فللشعب السوداني خبرة واسعة بالاحتجاجات والانتصار بها، وله تركيبة اجتماعية سياسية، قديمة وعريقة، وأظهر أشد البلاء بحربه ضد الانجليز زمن الاستعمار.
وضع البشير يده أيضاً، بيد حكام السعودية ودول الخليج، والذين بالمناسبة، نسوا خلافاتهم الشائكة، وتوحدوا بدعمه، وأسكتوا أبواق إعلامهم عن التكلم عن الاحتجاجات الشعبية على أهميتها، ظانين أن التعتيم الإعلامي سيُشفي المريض، ككسر ميزان الحرارة لإخفاء المرض.
تثور المدن السودانية، من صغيرها إلى كبيرها، وليس العكس، وبكل مقاطعات الوطن، لذلك لن يتمكن البشير، من تهدئة الشارع بوعوده الكاذبة، ولا بتهديداته العنترية، حتى ولو أغدق عليه الخليجيون، رأس أفعى الثورات المُضادة العربية، ملايين الدولارات باللحظات الأخيرة.
يعلم جميع سكان السودان، ذلك الشعب، صاحب الحضارة الفرعونية الألفية، أن الظلم لا يدوم، والحق عائد إلى أهله، بقوة أبناء الوطن، وتماسكهم وتوحدهم، وسيخرجون من بينهم ومن أنفسهم، القيادات والمفكرين الضروريين لقيادته بهذه الفترة الصعبة، ولن يلتفتوا لمن تهاون وتمادى مع نظام البشير وسكت عن جرائمه.
نأمل في السودان وللسودان خيرا، وأن تكون شُعلة عودة الربيع العربي إلى الضوء، بعد سنوات ثماني عِجاف، ارتدت بها موجته، من سوريا ومصر وليبيا وغيرها، وجرفت معها كل إنجازاته، فعودة الربيع تعني لنا، إنحسار قوى الاستبداد والعنف المضاد، وهذه المرة، لن يقف بوجه ربيع السودان الأخضر، جحافل إيران الطائفية، ولا طائرات بوتين، وسيبقى بالنهاية، البشير وحيداً.
بدء تملمُل الربيع الجديد، في مناطق عدة بوطننا، من البصرة بجنوب العراق، والذي لا يقف الحراك به يوماً، ومن مناطق أكراد شمال العراق، ومن الأردن ولبنان والمغرب والبحرين، الكل يحمل معاني وقيم الربيع العربي، وليست قيم الطائفية المقيتة، التي زرعها التطرف الإسلامي والأنظمة الاستبدادية.
قالها جمال خاشقجي (أتركوني لا أستطيع أن أتنفس)، فليترك البشير وزمرته، الشعب السوداني، ويتركوه يتنفس، تكالب المجرمون حول جمال، لن ينجح هذه المرة، بإسكات أنفاس المواطنين السودانيين، صغارهم وكبارهم، وبالملايين الأربعين، الذين يتشكلون منهم.

مراقب ومحلل سياسي مقيم في باريس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية