قامت الثورة السورية لهدم أركان نظام الأسد ورفض الاستبداد الذي استخدمته السلطة الأمنية بيد من حديد ضد الشعب السوري، ورفض الواقع الذي فرض على المجتمع السوري بأكمله.
والثورة بذلك تعني الهدم والبناء والنظر للمستقبل وهي مشروع الشعب الذي قام بالثورة، وليست مشروع معارضة ونخب. وأراد الشعب السوري من خلالها تحرير الإرادة من الإدارة المستبدة الظالمة، ولا تعني الثورة الوصول الى السلطة عبر انقلاب عسكري، فالانقلاب العسكري قد يمثل ثورة بمعنى من المعاني، ولكنه ثورة على النظام السياسي لأجل تغيير الديكور والشخوص.
في الثورة السورية وفي ظل غياب الثقافة والوعي السياسي هناك خلط متعمد بين الثورة والمؤامرة والفتنة، وذلك لهدف استراتيجي من طرف نظام الأسد لأنه يريد الحفاظ على سلطته وبسط نفوذه السياسي عبر هذه الثقافة المشوشة.
لقد مثلت الثورة السورية تاريخا فاصلا بين عهدين عهد نظام الأسد الذي بقي زمنا طويلا في الحكم وعهد الربيع العربي الذي جاء بدون تخطيط من أي جهة، بل لم تكن أي جهة تتنبأ بوقوعه في هذا الوقت.
جاءت الثورة السورية في ظل تشويش في الوعي السياسي للنخب السورية، فالنخب لم تكن مهيأة لقبول الثورة بوعي ثوري، ونجح نظام الأسد بإشغالها في الحرب الأيديولوجية عن متطلبات الثورة، وصار البحث عن حليف يوافق ايدولوجيتها وفكرها، ومن هنا فاجأت الثورة الجميع، لأن من طبيعة الثورة في عمقها المفاجأة من جانب والتجاوز لما هو موجود من جانب آخر.
في زمن الربيع العربي أظهرت الثورة السورية الفشل لجميع النخب السياسية في سوريا في فهم اللحظة، ولهذا تجاوزت الثورة سقف الجميع، والغريب أن النخب حاولت ركوب الموجة بسرعة، ولكن بدون وعي ثوري، ومن هنا، فشل الجميع بلا استثناء.
في الوقت بدل الضائع
لقد عملت القوى السياسية ما بعد الثورة بعقليات ما قبل الثورة، ولم يتحصلوا على الوعي الثوري ولهذا وجدنا الصراع السياسي للوصول إلى مواقع القرار وذلك قبل أن تنجح الثورة في مشروعها، فتراجع دور الثوار، وتضخم دور السياسيين. ومن خلال هذا التراجع، وذلك التضخم، عاد النظام القديم من خلال أدوات الثورة، فأسقطت الثورة المضادة حلم الثوار من خلال تراجع الثوار وتضخيم السياسيين لدورهم في الوقت بدل الضائع. في الربيع العربي والثورة السورية جاءت الثورات بدون تمهيد من الوعي، على عكس الثورات في الغرب التي جاءت بعد ظهور المفكرين في عصر التنوير واستطاعت نخبه تعميق المفاهيم الضرورية للحياة السياسية والاجتماعية، وبذلك تقدم الوعي على الثورة في الغرب. في الثورة السورية، التي قادها فكر إسلامي غير ناضج في المسألة السياسية، والذي أراد تأسيسها على رؤية دينية بحتة، وبما يشبه الحكم الثيوقراطي، كما أن وجود سوريا في موقع جغرافي استراتيجي جعل الدول المحيطة والقوى الكبرى تتدخل في إدارة إرادة الثورة بشكل يناسب مصالحها، في ظل غياب رواد الوعي السياسي عن الثورة.
وهكذا انطلقت الثورة على غير هدى من الفكر والوعي، ثورة رفض وتمرد على نظام الأسد ولكن الطريق لم يكن واضحا أمامها، لأن الوعي يمثل الوقود الرئيسي للثورة، فكلما كان الثوار أكثر وعيا، كان النجاح حليفا لهم، وكلما كانوا أقل وعيا كان اللعب بهم وبثورتهم هو البديل عن النجاح، لأن الوعي شرط ضروري للنجاح، ولكنه ليس شرطا لحصول الثورة، فقد قامت الثورة السورية عندما حصلت الشروط الموضوعية الخارجة من إرادة الثوار، قامت نتيجة نظام استبدادي تراكمت أخطاؤه وتزايد طغيانه في البلاد وغياب أمل الشعب مع شده ألمه!
الثورة السورية لم تقم بغرض إعادة دين غائب ولم تحمل شعاراتها رمزا دينيا، بل رفعت شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية وهي رصيد مشترك في كل الأديان، كما أن انطلاقتها الأولى تمثلت في شباب لا ينتمي لأي جماعة دينية. وإذا كانت مشاركة التيارات الدينية المتحزبة في الثورة السورية في عملية هدم نظام الأسد فلا يمكن تصور دور مهم للدين في عملية البناء، وهذا يتوقف على الفهم الصحيح لدور الدين في حياة الأفراد والمجتمع بشكل عام، والتسليم بأن السياسة تعالج أمورا نسبية فيما يعد الدين مطلقا وبالتالي فإنه ينبغي الحذر من الفساد عند خلط المطلق بالنسبي، فالدين ضروري للحفاظ على المخزون القيمي للمجتمع، مثل الصدق والأمانة والمساواة والعدل وإتقان العمل، ولكن الدين لا يمكنه ولا يصح الزج به في عمليات المصالح التي هي جوهر السياسة. الدين لا ينبغي أن يكون معوقا للبناء أو أن يكون كهنوتا يسيطر عليه حزب وجماعة تدعي الحكم بتفويض إلهي. بل ينبغي التسليم بأن الدين يمثل للمجتمع السوري رقما صعبا، وهو جزء من هويته الوطنية سواء لمعتنقي الإسلام أو غيره، بما يفرض احترام حرية العقيدة كضمان أساسي للمواطنة، وبذلك يكون للدين دور بارز في عملية البناء.
الثورة تعني التغيير الجذري الشامل للواقع الموجود في المجتمع، وهذا التغيير يتضمن عمليتين هما الهدم والبناء، هدم النظام السائد وبناء نظام جديد على أنقاضه، ولكن عندما تهدم الثورة النظام القديم وتعجز عن بناء النظام الجديد قد تخرج عن مفهوم الثورة لتصبح مجرد حركة احتجاج وتظاهر. وهذا ينطبق على كل ثورات الربيع العربي، فإذا اقتصرت الثورة على هدم النظام السائد وعجزت عن بناء نظام جديد دون أن تقضي على عناصر قوة النظام فقد يكون مصيرها الفشل. هذا الفشل وتغير مسارها لا يشككان في مبررات قيامها الأخلاقية ومطالب الشعب العادلة، ولكن هذا لا يعطيها صك غفران مفتوحا للنجاح، لأن نجاحها مرتبط بتحويل الهدم إلى بناء، وهذا بدوره لا يتم إلا إذا تحققت شروط النجاح وأهمها ضرورة وجود الروح الثورية الإيجابية البناءة التي تحرك الشعب، ووجود فكر ثوري متجانس يوحد قيادة الثورة للقيام بعملية البناء الموحد للبناء المُراد إقامته على أنقاض نظام الأسد، ويمهد لقيام مشروع وطني جامع.
مشاريع ضبابية
ولكن بعد أحد عشر عاما من انطلاق الثورة السورية وانطفاء الروح الثورية وتحول الفكر الثوري إلى أفكار متناقضة، وتحول التصور الموحد إلى تصورات متنافرة وأوهام متضاربة وخيالات مشوشة، أصبح المشروع الثوري مشاريع ضبابية ينقض بعضها بعضا وينفي أحدها الآخر. أما الأهداف المشتركة المفترض وجودها فذهبت أدراج الرياح لتحل محلها أهداف خاصة تبحث عن المكاسب والسلطة، مما جعل نظام الأسد يعيد وجهه القديم متجاوزا عملية إسقاطه بل أسقط الدولة السورية، وامتد عمره من خلال هيئة التفاوض واللجنة الدستورية ويسعى إلى إقامة نظام توافقي بينه وبين المعارضة. لا يستطيع أي باحث متخصص في علم السياسة أن يتجاوز الحقيقة الأولى والوحيدة التي تجلت في الثورة السورية وهي: براعة في الهدم، وفشل في البناء، وتضخم وتوسع للكائنات الانتهازية من المنتسبين لصفوف الثورة، وكذلك توظيف الدين لتحقيق مطامع سياسية، والاستعانة بمعارضة الخارج، والوقوع في شراك سارقي الثورات من الأحزاب الأيديولوجية، وأغلبهم ينظر لثوار الداخل على أنهم هدامون فوضويون، في حين أن الذين تسيدوا قرار الثورة وفازوا برخص المقاولة للبناء، هم من هلل لثورة الخميني في إيران فرحا وطربا، وتعلقوا بها وكأنها شعاع الأمل الذي سيقود الدول الإسلامية لإعادة مجدها التليد، ولكنها تحولت بعد تصديرها إلى أكبر قوة هدم وتدمير حضاري في العراق وسوريا واليمن، ولم تقدم إضافة واحدة إلا زيادة عدد العمائم وأطفال الزواج المؤقت مجهولي النسب، وما عدا ذلك كان رصيدها دمارا في دمار، وقتلا وتخريبا في البلاد العربية.
المعارضة السورية المصطنعة، التي تصدرت المشهد من مجلس وطني ومن بعده ائتلاف ومشتقاته وهيئاته وتوابعها، عطلت عملية الهدم وأفسدت عملية البناء في الثورة السورية، فالثورة لها مرحلتان أساسيتان تتداخل فيما بينها إحداهما مرحلة هدم والأخرى مرحلة بناء، وبعد عشر سنوات لا زلنا في مرحلة الهدم.
وبذلك لم تعد توجد اختلافات كبيرة وجذرية بين نظام الأسد ومعارضته التي تسيدت صفوف الثورة، فقد أصبح الفريقان متشابهين إلى أقصى الحدود من حيث نظرتهم وتصورهم لشكل الدولة ودور الحكومة والصيغ والوسائل التي يتم عن طريقها تصريف أمور البلاد والعباد.
وكذلك الفريقان متطابقان في نفس التصورات البدائية، وقد لا يعرف بعضهم ما هو الفرق أصلا بين الدولة والحكومة، وبين الغاية والوسيلة، وبين المسببات والأعراض ..! الأسد يعمل بجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل أن يبقى على الكرسي، ومشروعه الأول والرئيسي هو البقاء إلى الأبد، لأنه حسب الصيغة الرسمية المطبقة في هذا البلد فإن كرسي الرئاسة هو كل شيء ولا شيء خارجه إلا القتل والاعتقال والتهجير والبطالة والفقر والطوابير.
مؤتمرات وبيانات
في المقابل فإن مشروع المعارضة هو التخلص من الجالسين على كرسي الرئاسة والحكومة والجلوس بدلا عنهم، وما عدا ذلك من ثورة شعب يطالب بحريته ونيل حقوقه فهي أمور تبدو هامشية لا أهمية لها ولا يهم المعارضة أن تحققت أو لم تتحقق. والدليل على ذلك إن أقصى ما تقدمه وتقترحه المعارضة هو تكرار تجريب المُجرَب، ولفة جديدة حول نفس جزيرة الدوران، وتكرار عقد مؤتمرات واستجرار بيانات. وتتحول الثورة من وسيلة لهدم النظام إلى غاية، تصبح ايدولوجيا مغلقة، وحين ينتقل الثائر من ساحة العمل الثوري إلى السلك السياسي والدبلوماسي فإن نتائج تصرفاته تصبح صفرا لصالح وطنه وتحصد نتائجه الدول التي تتقاطع مصالحها معه والتي تجعله أداة لتحقيقها. لأن الشخصية والطبيعة النفسية التي يتنمط بها الثائر تختلف عن التي يتحرك فيها السياسي الذي ينتظر ثمنا من الثورة ليتكسب منه لمصلحته الخاصة قبل تحقيق مكاسب الثورة، وبذلك يكون عبئا على الثورة، وأقرب للمرتزق الذي غايته البحث عن حصة من الكعكة كأجر له على “ثوريته المزعومة”. وبذلك يشابه المستبد الذي ثار عليه بل إنه يصبح أشد سوءا منه. وهذا بعض من الأسباب الهدامة التي تعيق البناء وجعلت المتصدرين لقيادة الثورة، يفقدون بريقهم وتتلاشى شرعيتهم تدريجيا أمام المجتمع لأسباب ذاتية وخارجية كما أسلفنا بعضا منها. ويعود الشعب الثائر لعمل المقارنات بين ما سبق الثورة وبين واقعه المعاش الذي يقاسيه، فلا يرى بديله إلا ما كان سابقا ونسخة من الأول الذي ثار عليه.
هذا الهدم أصاب الثورة بالكسل العقلي والإحباط المخطط له، والذي هدفه إيصال العقل السوري إلى مرحلة الاقتناع انه لا أمل يرجى، وتراكم الفشل وتوسعت سيطرة نظام الأسد، وتفكك المجتمع وانفضاض الشارع من حول الثورة واتساع عدم الثقة بمختلف قيادات المعارضة السورية، أصبح أكثر انتشارا مما ادى إلى عدم التفكير في أشكال جديدة لاستمرار الثورة. وبذلك يتوالى انهدام الثورة عبر جرح كرامتها الوطنية واختلاف من تسيد قيادتها على ميراثها لا الثأر لها! السؤال الذي يطرح نفسه بعد سنوات من الثورة، هل لا تزال هناك إمكانية لإصلاح ما تبقى، أم يجب هدم الموجود والتخلص منه والبدء ببناء جديد؟!
*
كاتب سوري