الثورة السورية والبراغماتية الغربية

حجم الخط
0

في القرن التاسع عشر، كان المفكر أرنست رينان يطرح نموذج العقلية السامية، التي تنتمي إليها شعوب بأسرها تنتشر في الشرق الأوسط والجزيرة العربية وشمال أفريقيا. ولا يكتفي بتعميم عيوب تلك العقلية المفترضة، كما يظن، على الشعوب العربية بل أيضاً على الشعوب الغابرة من آكاديين وكنعانيين وبابليين وعموريين وآراميين وحتى العبرانيين.. وبحسبه فإنها تتسم بالجمود والتعصب وعدم القدرة على التطور.. ولذلك يرى أنه لا يمكن أن تُحكم تلك الشعوب إلا بنموذج الأنظمة الاستبدادية… وقد أثار بذلك جدلاً، لم ينته حتى اليوم، شارك فيه عدد من رجالات عصر التنوير العربي أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، كما اشتغل به مفكرون معاصرون كالراحل إدوار سعيد..
لكن الفرنسي رينان لم يكن صوتاً منفرداً في أوروبا الحرية والديموقراطية كما تبدو من الداخل.. بل كان واحداً من جيش من المثقفين والمفكرين الغربيين الذين شكلت نشاطاتهم وبحوثهم قوام حركة الاستشراق وهذه بدورها كانت الوجه المعرفي والثقافي لأوروبا الاستعمار كما تبدو من الخارج..
مع انطلاقة الثورة السورية كان الجدل يتصاعد شهراً إثر شهر، على خلفية خذلان الغرب للسوريين، وتركهم يُذبحون ويُهجرون ويُشردون.. والسؤال واحد تتصاعد مرارته: لماذا يخذلوننا..؟! أما الجواب فأجوبة لا تنتهي وتتباين بحسب ميول وتوجهات المجيب..
من بين الأجوبة جواب الصورة النمطية التي وضع الغربُ في إطارها السوري كنموذج للتعصب والجمود.. وبدلاً من اعتماد صورة الإنسان الحضاري الذي ابتكر أول أبجدية في التاريخ، وروّض الحيوان، ومارس الزراعة.. لينتقل مبكراً جداً من طور البربرية إلى طور الحضارة.. بدلاً من ذلك اعتمد صورة للسوري، يتجلى مظهرها بلحية كثيفة وعينين جاحظتين، بينما تتمظهر العقلية فيها بالتعصب والإرهاب.. ويتماشى هذا مع سلوك الإعلام الغربي الذي لم يعد يتعرض لمجازر نظام الأسد اليومية الممنهجة والمكثفة، بينما يقيم الدنيا ولا يُقعدها حين يرتكب بعض المحسوبين على الثورة جريمة ما رغم أن هذه الأخيرة تتسم بالفردية والمحدودية..
لكن الصورة المسبقة ليست سوى الحركة الذهنية الواعية، والتي تأتي لاحقة لمسبق معرفي تراكمي وشديد التعقيد، وأيضاً عميق يتموضع في أعماق اللاشعور المعرفي لشرائح واسعة جداً من نخب المجتمعات الغربية. وعلى هذا يغدو التفسير، بالصورة المسبقة، مجرد اكتفاء بقطعة ثلج ليست سوى ذروة صغيرة لجبل جليد هائل يختفي في أعماق الماء.. بل يغدو الأمر أكثر إرباكاً إن وُجه للتفسير بالصورة اعتراضاً مفاده أن صورة الليبي، كما صورة الكويتي، ليس أفضل من صورة السوري! ومع ذلك سارع الغرب للتدخل في حالتيهما..
إن تتبع السياسات الغربية إزاء الثورة السورية، منذ قيامها قبل ثمانية وعشرين شهراً وحتى تاريخه، يُظهر أن القرار الغربي يتحرك بين خطي إحداثيات. الأول هو المبدئية ويتجلى في ركام هائل من التصريحات الرسمية وشبه الرسمية، عن حق الشعب السورية في الحرية والديمقراطية والتحرر من الاستبداد، وعن حقوق الإنسان..
والثاني هو المصلحية التي ترسم خطأ السياسات العملية، والتي أخذت سلوك الامتناع عن أي تحرك جدي فاعل تحت تبريرات شتى، كاختلاف الحالة السورية عن غيرها، وظهور الجهاديين في صفوف الثوار السوريين، وغيرها من مسوغات تخفي المصالح الجوهرية للغرب الرسمي .. والمصالح هنا كثيرة ومتداخلة على نحو شديد التشابك والتعقيد..
من أقوى تلك المصالح استنزاف كل الأطراف، لاسيما المصنفة كأعداء أو شبه أعداء، وصولاً إلى حالة انهيار تسمح بفرض حل يتوافق حصرياً مع المصالح الغربية.. وفي هذا السياسة تضحية بالمبدئي القيمي لحساب المصلحي النفعي.. وهذا لم يحدث عرضاً بل هو قاعدة أساسية في بناء السياسات الغربية. فالتدخل في ليبيا، كما في الكويت، فرضه حساب المصالح الذي فرض في حالة سورية الامتناع عنه..
فهل من الممكن أن نستخدم بدورنا مفهوم العقلية، على علاته العلمية، لنوصف آليات التفكير والممارسة في الغرب الرسمي؟! ونؤكد هنا أن كل التحليل السابق لا يصح تعميمه على الغرب بأسره.. بل نحسب أنه ينطبق على قسم من نخبه ومؤسساته وتنظيماته التي تشكل تكوينه الرسمي دون الشعبي منه..
تعود النفعية كتيار فكري في الفكر الغربي إلى مجموعة من المفكرين البريطانيين في القرن التاسع عشر. وكان من أبرزهم بنتام. إلا أن صياغاتها الكبرى، كنظرية ومذهب في المعرفة والوجود، ظهرت في سبعينيات القرن العشرين، حيث عمت في الأوساط البريطانية والأمريكية. وقد طرح تشالز بيرس، وهو واحد من أكبر منظريها، موضوعته الشهيرة بالقول (إن وجود الشيء يعني كونه نافعاً). وقد اغتنت بأعمال وليم جيمس وأداتية جون ديوي وعملياتية بريغمان.. لتغدو النفعية منهجاً فكرياً، يندرج ضمن تيارات الفلسفة الذاتية، آخذة مصطلح البراغماتية التي سعى منظروها إلى جعل الفلسفة والفكر مقرونين تماماً بالحياة، وإلى خلق القيم والمثل والمبادئ الأخلاقية كما دعا جون ديوي.. لكن على الصعيد المعرفي تنفي البراغماتية عن الواقع صفة الموضوعية، وتراه مجرد وجود هلامي لا شكل له ولا معنى، يقوم الوعي الإنساني، مدفوعاً بالنفعية، بإسباغ ملامحه وتعيينه. والوعي المقصود بحسب الفكر البراغماتي هو وعي الفرد المجرد لا الإنساني العام.
هكذا تطورت البراغماتية ودخلت مطبخ السياسات الغربية، والأمريكية منها خصوصاً، لتتبلور في أحيان كثيرة في صور متطرفة تتعامل مع الآخر، كشيء نافع، سقطت سهواً عنه الصفة الإنسانية..!
لكل شعب قدراته وطاقاته المبدعة وأيضاً خرافاته. وشعوب الغرب ليست أبداً استثناء. فالغرب المتقدم، الحامل لراية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لم يجد غضاضة، في تسعينيات القرن العشرين، أن يحكم على مفكر كـروجيه غارودي بغرامة قدرها خمسون ألف فرنك فرنسي بعد استبدالها بالسجن، لمجرد أنه شكك في كتاباته بأرقام الضحايا اليهود في فترة النازية..!
لكن يبقى أن على الطرف الآخر من المعادلة، على السوريين والعرب عموماً، أن يدفع صاحب القرار الأمريكي والغربي نحو مزيد من الإنسانية، وإن يزحزح نمط تفكيره وسلوكه البرغماتي إلى حدود مقبولة من القيم والمبادئ الإنسانية العامة. وهو الأمر الذي لا يتحقق إلا بفهم عميق للواقع الموضوعي، تمهيداً للوقوف بقوة وعلى طرف المساواة مع الغرب، من خلال الارتقاء بالثورة وتخليص ثوارها من التشرذم والتبعية وتحقيق الاتحاد على أرضية وطنية واقعية بعيدة عن الخيالات والأحلام..
ومن أسوأ ما يمكن أن يقع فيه السوريون والعرب هو الاستلاب لنمط من الوعي يقع على طرف النقيض تماماً للبراغماتية. فالدوغمائية نمط من الوعي ينعزل تماماً عن مقاربة الواقع الموضوعي والانغلاق على مجرد تصورات عنه تتسم بالمثالية المفرطة والماضوية بما تنطوي عليه من أطروحات وحلول وأفكار غافية خلف قرون وقرون. وتشير كثير من وقائع التاريخ إلى أن مواجهة البراغماتية مع الدوغمائية غالباً لا يكون في صالح الأخيرة.
وقد ظهرت أشكال من الخطاب الدوغمائي عند بعض تشكيلات وفصائل الثوار.. لكن ذلك يبدو حتى الآن ضمن حدوده الطبيعية ويظهر عليه الطابع المرحلي الآني..
قد يبدو وقوفنا كندّ أمام الغرب، نواجه وعيه وفكره بوعي وفكر لا يقلان عنهما تماسكاً وواقعية، متعذراً في الوقت الراهن.. لكنها الثورة! وما الثورات إلا إعادة لترتيب الممكنات وإسقاط للمستحيلات على أرض الاستطاعة الإنسانية. وقد مضى من عمر الربيع العربي أكثر من عامين ونصف. وهذه مدة ليست بشيء في تاريخ الشعوب.. وما يجعله الطيران الحربي والصواريخ والقصف المدفعي في سورية اليوم مستحيلاً، سيكون ذات يوم ممكناً.. إنها الثورة التي مهما حُرفت وغيّبت فعاليتها، وشُوّه خطابها، فإنها تعود للظهور أقوى وأمضى، كما تعود للأشجار أوراقها وأزهارها بعد شتاء عاصف طويل.

‘ كاتب من سورية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية