عانت الثورة السورية من طوباوية نخبها، كما النظام، فمحاولات إلباس الثورة قيما معينة، كالمدنية والديمقراطية لإسباغ المثالية عليها وتقديمها للعالم الغربي، تشبه موضة «الفلتر» في الموبايل، التي يستخدمها الكثير من الفتيات لجعل صورهن تبدو أجمل حسب الموضة المتوهمة. هذا لا يعني أننا نختلف، أو نعارض قيم الحداثة والمدنية والديمقراطية، لكنّ هناك فرقا بين الرغبة بالتباهي و«تحسين الصورة» أمام القوى الدولية، والرغبة بالنصر.
النظام وحليفاه إيران وحزب الله جاهروا بأكثر الشعارات الدينية المذهبية رجعية وقبحا، في معركتهم مع المعارضة، لأنهم ببساطة عملوا للانتصار في الحرب، وإن على حساب «تحسين صورتهم» بالفلتر! قيم الثورة انعكاس لقيم مجتمعها، ومجتمع الثورة في سوريا في الأساس سني محافظ، ريفي إسلاموي، في دوما أحد معاقل الثورة في دمشق، لم يكن بالإمكان أن ترى بسهولة امرأة غير محجبة، إلا إذا كانت منقبة، وفي حريتان في ريف حلب قد يتنابز الناس إذا رأوا رجلا يمسك يد زوجته في الشارع، يمكن استخدام الفلتر لإخفاء أو التخفيف أو مواربة هذه الصفات المحافظة، كاختراع تبريرات تفصل الأيديولوجية عن القيم والهوية، قبل الاصطدام مجددا بحقيقة أن ما أفرزته الثورة من فصائل مسلحة، كان في سواده الغالب إسلاميا، يمثل انعكاسا وامتداد طبيعيا لحقيقة أن القوة المعارضة الأبرز ضد النظام كانت منذ الثمانينيات هي الإسلامية.
هناك «ثورات» في سوريا وليس ثورة واحدة، ثورات تكتسب ألوانا مناطقية وطائفية وقبلية.. وهناك نظام هو في الحقيقة طائفة مسلحة بعنوان دولة
ممكن ببساطة أيضا النظر للمرآة، والتعامل مع واقع مجتمع الثورة والمجتمع السوري، كبقية مجتمعات المشرق العربي هو مجتمع منقسم، لا يجتمع على منظور موحد لهوية الدولة، لا تاريخا ماضيا ولا حاضرا، والأهم أنه مجتمع لا تحركه أدبيات الحداثة من ديمقراطية ومدنية، التي تلوكها نخب المعارضة، بقدر ما يتأثر بالأدبيات الطائفية والقبلية، أي أنها مجتمعات تفهم لغة شيوخ دين وشيوخ قبائل أكثر من لغة الأحزاب السياسية وشعارات المدنية. انظر لما حدث في السويداء ودير الزور مؤخرا، ثوار السويداء بقيادة شيخ الطائفة الهجري ومقاتلو دير الزور برمزية شيخ القبيلة الهفل! حتى إن ضعف دور الشيخ أو الزعيم، تبقى روابط هذه المجتمعات بينها قائمة أكثر على شبكات العشيرة والطائفة، وهو ما ينطبق على المشرق العربي عموما. وحتى على صعيد الآلة الإعلامية للثورة، أدى الخطاب الإنكاري لصناعة واقع سوري افتراضي مواز، واجترار أدبيات النظام نفسها، في التخوين من جهة، وإسباغ المثالية والتقديس على الثورة، والاتهام بالعمالة للنظام لكل مخالف، وإن كان معارضا ومقاتلا للنظام. ففي النزاع الأخير بين القوى الكردية وعشائر دير الزور، اتهم الأكراد بالعمالة للنظام وانحاز الثوار لعشائر دير الزور، رغم أنهم كاكراد يمارسون معارضة النظام منذ عقود، ثم تبين أن إبراهيم الهفل شيخ العكيدات بنى صلات مع النظام، ومقاتلوه يتلقون دعما من النظام في محكان في الشامية في دير الزور! هذا لا يعني أبدا الانتقاص من حق العشائر العربية في المطالبة بحق التمرد على حكم أكراد «قسد» غير المنتمين لتلك المناطق العشائرية في غالبيتها الساحقة، ولكن لا يستوجب هذا صناعة واقع افتراضي يجعل الأكراد عملاء للأسد!
في السويداء خرجت أخيرا الحشود لتتظاهر ضد النظام، بعد أن تبنى المعارضة شيخ من الطائفة الدرزية هو الشيخ الهجري ورفعت أعلام الطائفة أولا، لم تفلح محاولات الشيوعيين في سنوات الثورة الأولى من نقل مظاهرات بلدة شهبا المحدودة لقلب المحافظة، قبل دخول شيوخ الطوائف على الخط، ولكن هل حراك أو ثوار السويداء ينتمون لحراك مجتمع الثورة السني؟ هم يتفقون في الخصم ويختلفون في الدوافع والمنطلقات، لذلك ستجد في الحقيقة أن هناك «ثورات» في سوريا وليس ثورة واحدة، ثورات تكتسب ألوانا مناطقية وطائفية وقبلية. وهناك نظام هو في الحقيقة طائفة مسلحة بعنوان دولة، عموما كانت هناك ثورة سنية، ونظام علوي، والان لدينا ثورة درزية ضد الاثنين!
كاتب فلسطيني