كل ثورات الربيع العربي المطالبة بالحرية والديمقراطية (وليس بالخبز) واجهتها الثورات المضادة من أنظمة عربية وغربية، وهي تحاول القضاء عليها، من مهد الثورة في تونس، إلى آخر ثورة في السودان وليست الأخيرة، مرورا بمصر، وليبيا، وسوريا، واليمن. لكن الغريب في الأمر أن التعامل مع هذه الثورات لم يكن متجانسا وثابتا، وخاصة من الدول الغربية. ونتوقف هنا على الموقف من سورية ومن السودان.
من سلمية إلى مواجهات في سوريا
تنفرد الثورة السورية من بين الثورات العربية بمجموعة من الخصائص تميزها عنها، فالثورة قامت ضد نظام بشار الأسد الذي في بداية الثورة كان خلال 41 سنة مستمرا في الحكم، ولكن بالتوريث، (نفس فترة حكم معمر القذافي بدون وريث).
والنظام السوري هو نظام أمني مطلق ككل الأنظمة العربية، ولكن بفارق أن النظام يعتمد على الطائفة العلوية وتحالف طوائف أخرى (الطوائف في سوريةا: شيعة، مسيحيون بكل تفرعاتهم، علويون، اسماعيليون، دروز) في مواجهة الأكثرية السنية التي تعد أكثر من 75 في المئة من الشعب السوري. ويتميز الشعب السوري أن مكوناته العرقية متنوعة أيضا مع غالبية كردية (كرد، وشركس، وأثوريون، وتركمان، وأرمن). يضاف إلى كل ذلك القبلية (قبائل متعددة شمر، بقارة، حسنة، عنزة، المسالمة، المحاميد، الرفاعي..)
وهذا التنوع لم يكن من شأنه أن يجمع الشعب السوري على كلمة واحدة، وهدف واحد هو إسقاط هذا النظام وبناء دولة المؤسسات الديمقراطية يتمتع فيها كل فرد بحقوقه كاملة على قدم المساواة دون تمييز طائفي أو عرقي.
انطلقت الثورة من مدينة درعا التي في الواقع هي في منطقة قبلية عربية بامتياز ثم تبعتها المدن السورية من دمشق إلى حمص وحماة وحلب (ما عدا المناطق العلوية في الشمال الغربي، والدرزية في الجنوب الغربي، والاسماعيلية في الوسط، وبعض المناطق ذات أكثرية مسيحية). ورغم ذلك فالثورة التي انطلقت في 18آذار/مارس طرحت شعار: “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد”، وأكدت على سلميتها برفع شعار:” سلمية، سلمية” لكن النظام كان يجر الثورة لتقع في فخ التسلح ليطلق عليها “ثورة الإرهابيين” فخلال حوالي ثمانية أشهر كان السوريون يتظاهرون في الشوارع والساحات العامة ويتلقون الرصاص بصدورهم، ويعودون للتظاهر في اليوم التالي حاملين نعوش شهدائهم وهم يغنون للثورة.
الغازات الكيميائية
أمام مسمع ومرأى العالم أجمع كانت كل أصناف الأسلحة تسقط على رؤوسهم وتخنق الناس وأطفالهم بغازات كيميائية دون أي ردة دولية، أو عربية تذكر سوى بعض الإدانات اللفظية، أو هجمات صاروخية أمريكية خلبية حصنت النظام أكثر مما أضعفته، فالولايات المتحدة في عهد أوباما حاولت في البداية دعم الجيش السوري الحر ثم سرعان ما انقلبت سياستها 180 درجة بعد أن دخل تنظيم الدولة- داعش والنصرة في المعادلة السورية، لتدعم قسد (قوات سورية الديمقراطية الكردية) التي تسيطر اليوم على أكثر من ربع مساحة سوريا، ولم تضغط على النظام كي يتوقف عن قصف السوريين وقتلهم، ولا طالبته باحترام قرارات الأمم المتحدة بهذا الشأن وخاصة قرار 2254 بل تركت الحبل على غاربه لمنافسها التاريخي روسيا التي تدخلت في الشأن السوري منذ العام 2015 بطلب من النظام السوري لينقذ النظام من السقوط بعد أن فشل الإيرانيون وكل ميليشياتهم بالوقوف في وجه الفصائل السورية المسلحة، فباتت سوريا محتلة من دول عدة، ومقسمة جغرافيا إلى ثلاث مناطق يسيطر النظام فقط على حوالي 60 في المئة من جغرافية سوريا.
ومازال موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد عشر سنوات من الثورة غامضا، محيرا، ومشوشا. رغم استمرار آلة القتل والتدمير، وتهجير السكان، وتهريب المخدرات، ( قتل في سوريا لا يقل عن نصف مليون سوري، ودمر ثلث المدن السورية). وتحولت سوريا إلى محمية روسية ـ إيرانية، والغرب يتفرج، ولم يحرك ساكنا، و في حين أن الأمر اختلف في السودان.
الثورة السودانية
يعتبر السودان، ربما البلد الأكبر في الوطن العربي قبل التقسيم، بلدا متعدد الطوائف والأعراق والقبائل، وهو مجتمع قبلي بامتياز، وما يميزه عن باقي البلدان العربية أن جزءا من مكوناته من قبائل إفريقية (الدينكا، النوير، الشلك، الزاندي، الفور..) ومئات القبائل الأخرى من عربية وإفريقية ونوبية، وهي متعددة اللغات والديانات والمعتقدات (إسلام، مسيحية، وثنية).
الرئيس المخلوع عمر البشير الذي قاد انقلابا بتحالف حزبه ( حزب المؤتمر الوطني) مع الجبهة القومية الإسلامية برئاسة الراحل حسن الترابي، ضد الحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي في العام 1989.
وشهدت فترة حكمه حروبا داخلية متعددة وطويلة بدأت من حرب الشمال والجنوب الذي انفصل في العام 2011 باستفتاء شعبي قامت به الأمم المتحدة، ثم حرب دارفور التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من قبائل الفور والبقارة.
وارتكب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، قبل أن ينقلب أيضا على حليفه حسن الترابي، ومطلوب من محكمة الجنائية الدولية.
الشعب السوداني الذي أسقط حكم البشير نادى بالحرية والديمقراطية والحكم المدني، وتسلم عبد الفتاح البرهان قيادة المجلس العسكري الانتقالي مع تشكيل حكومة مدنية برئاسة عبد الله حمدوك، لكن سرعان ما انقلب على الحكومة المدنية في ما سماه “حركة تصحيحية” شبيهة بحركة حافظ الأسد في سوريا، بعد تدخل دول الثورات المضادة. لكن الشعب السوداني رفض الانقلاب على الحكومة المدنية وخرج بالآلاف في الشوارع كما خرج السوريون في الأمس، وواجهتهم قوات النظام العسكري بالرصاص، فقتل عشرة متظاهرين وجرح المئات.
هذا الانقلاب الذي لم يؤيده سوى إسرائيل التي قامت سابقا بعملية تطبيع مع البرهان، لكن الدول الغربية برمتها دانت الانقلاب وخاصة الولايات المتحدة، والأمم المتحدة، وطالبت البرهان بالعودة إلى المسار الديمقراطي والحكومة المدنية.
واتهمت أكثر من جهة دولية وإعلامية أن دول الثورات المضادة كانت وراء الانقلاب. فمقارنة بالثورة السورية نرى هنا أن الموقف الحازم من قبل الغرب لم يكن مماثلا في الموقف من الثورة السورية والمقتلة الكبيرة التي قام بها بشار الأسد، ولم تسع هذه الدول إلى دعم المعارضة السياسية السورية لتكون قادرة على فرض حكومة مدنية وبناء دولة مؤسساتية ديمقراطية تنهي إلى الأبد حكم العسكر، كما تدعو اليوم في السودان لتثبيت حكم الحكومة المدنية وقامت بتجميد المساعدات، وإطلاق تهديدات، وتحذيرات من إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وطلب عقد جلسة طارئة لمجلس حقوق الإنسان خاصة بالوضع في السودان.
كاتب سوري
الثوة السودانية التزمت التزاما صارما بالسلمية رغم تآمر أعداءها لجر شباب الثورة للعنف . هذا الإنضباط الذي فرضه في البدء تجمع المهنيين السودانيين أتمني أن يستمر . وإلا فحين إستخدام العنف يخسر الثوار تميزهم الأخلاقي من أعداءهم وحينها يكسب الجولة من كان أكثر عنفا و دموية .
نحن أهل السودان نتمني لأخواننا السوريين ولسوريا الشقيقة مانتمناه لأنفسنا ولبلدنا , ونحلم كما يحلمون بما قاله شاعرنا محجوب شريف :
حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي
وطن شامخ وطن عاتي
وطن خَيِّر و ديمقراطي!