الجبناء لا يدخلون الجنة

حجم الخط
2

الحب والحسابات كالخطين المتوازيين لا يلتقيان ابداً. ففي اللحظة التي تبدأ فيها بإجراء الحسابات، أنت تعترف من دون أن تدرك ذلك، أنك لم تعشق وتحب أبداً. ربما أصابتك شهوةٌ ، أو مسَّكَ إغراءُ الجسد بنوعٍ من الانبهار الذي ظننته لوهلةٍ حباً، ولكنك وللأسف لم تعرف الحب ابداً. فالحب هو النار المتوهجة، الدافئة التي تلهب حياتنا بالألق، والنور، والجمال وتصيّرنا بشراً مختلفين عما عهدنا أنفسنا عليه من قبل. والحسابات هي الماء التي تريد أن تخمد هذه النار المستعرة ،الخلابة التي تدفئ القلب، وتملأه حيويةً، ونشاطاً، وشباباً، وثقةً.
العاشق لا يعرف الحسابات، ولا يمارسها، لأنه لا يعترف بها، فهو لا يفكر إلاّ في أن يكون بقرب من يهوى ويحب. فالحب لا يعني إلاّ المساواة مع الطرف الآخر. فالعلاقة بين طرفين التي لا تسرح فيها المساواة ولا تمرح قد تكون أي شيء، إلاّ حباً وعشقاً.
قصة حب الملك أدوارد الثامن لليدي سمبسون غيرت تاريخ الملكية البريطانية. فقد أحب الملك أدوارد الثامن سيدة المجتمع، الليدي سمبسون، رغم أنها كانت أمريكية، وليست بريطانية من بلده، وليست من عرقٍ نبيل، ومطلَّقة مرتين، وليس مرة واحدة. وقد كان مُطَلِّقاها لا يزالان بعد على قيد الحياة. وهذا الأمر أدى لحصول أزمة دستورية في بريطانيا حينها، لأنّ الملك كان رئيساً للكنيسة الإنجليزية، التي كانت في ذلك الزمن تُحرِّم على المُطَلَّقين، الذين لايزال مُطَلِّقيهم على قيد الحياة، الزواج مرة أخرى. وهذا مما اضطر الملك أدوارد الثامن للتخلي عن عرش بريطانيا العظمى من أجل أن يحظى بحبيبته.
لقد أحب الملك أدوارد الثامن عشيقته الأمريكية إلى الحد الذي جعله يتخلى عن عرش بريطانيا، ولقب ملكاً من أجلها. ولقد رجَّ زواجه منها العرش البريطاني رجاً، وصدم الناس حينها، وما زال يصدمهم إلى يومنا هذا. فما زال الناس يتساءلون كيف تمكنت هذه المرأة من جعل الملك يحبها كلَّ هذا الحب. بل ومازالوا يعجبون كيف تأتّى لهذه المرأة ،التي فشلت في حياتها الزوجية، مرتين قبل ذلك، أن تنجح في كسب قلب هذا الرجل، وكيف استطاعت أن تجعله يضحي بمستقبله كملك من أجلها. بل وصل الحال ببعض من أفراد عائلته إلى أن يزدرونه، ويعيبون عليه تخليه عن واجبه الوطني كملكٍ من أجل امرأة كانوا لا يعتبرونها في أحسن الحالات، إلاّ امرأة غير ذي قيمة، وفي أسوأ الحالات إلاّ فاسقةً ووقحة.
ورغم كلّ ذلك، لم يعط أدوارد الثامن أذنيه لمن حوله من أهلٍ، وأقاربَ، وأصدقاء كانوا يحاولون ثنيه عن التخلي عن أن يكون ملك بريطانيا العظمى، كما يحصل عادةً عندنا في شرقنا العربي. فلم يستمع لمن كان يقول له ولكنها مطلّقة مرتين، وهذا يعني أنها فشلت في زواجها مرتين، وليست مرة واحدة، كما يحصل عادة في مجتمعاتنا، ويزيدون قولاً بأنّ يرددوا المثل الدارج: تزوجوا مطلقات الدهر، ولا تتزوجوا مطلقات الرجال، أي تزوجوا الارامل، ولا تتزوجوا المطلقات.
وقد نجحت الليدي سمبسون في زواجها من الملك أدوارد الثامن، وعاشا معاً في سلام ووئام حتى وفاته. ثم جاء بعده الأمير هاري ليعيد قصة الملك أدوارد الثامن، الذي هو عم جدته الملكة اليزابث الثانية، وليتزوج ميغان ماركل، الممثلة الأمريكية السمراء المغمورة، والتي تتحدر من عرقين مختلفين، عرق أبيض أمريكي، وعرق أسود أفريقي، وهي مطلَّقة أيضاً ، وأكبر منه بثلاث سنوات. وهو بذلك يشبه جدته الملكة اليزابث الثانية، التي تكبر زوجها الأمير فيليب بخمس سنوات. أحب الأمير هاري ميغان دون كل صديقاته السابقات، وقرر الزواج منها، ولم يقل كيف سأتزوجها وهي أمريكية سمراء من عرق مختلط، أو كيف سأتزوجها وأنا أمير وهي ممثلة مغمورة، أو كيف سأتزوجها وهي فقيرة وأنا أمير بريطاني، ولا كيف سأتزوجها وهي مطلقة وأنا لم يسبق لي الزواج من قبل، ولا كيف سأتزوجها وهي تكبرني بعدة سنوات.
كلُّ هذه الحسابات تجاهلها الأمير هاري، وقرر أن يتزوج ميغان أمام أنظار العالم كلّه، رغم أنّه كان بإمكانه أن يتخذها مجرد عشيقة سرية، أو مَحظيّة في الخفاء. بل كان بمقدوره الزواج من أميرة تفوقها جمالاً، وحسباً، ونسباً، وجاهاً. ولكنّه كعم جدته، قرر أن ينتصر لقلبه ويتبعه، ولا يتبع الناس، فمن سيبقى معه ولن يتخلى عنه هو من يحبه، أما الناس فهم كلّ يوم في شُغلٍ منهمكين، سيخوضون اليوم في سيرته، وغداً سينشغلون بحديثٍ آخر غيره. فلا قيمة للحياة بدون شريكٍ مُحِّبٍ، تذهب الأموال، ويرحل الجاه، ويغادرك المنصب، ويبقى معك من يحبك للنهاية، في زهوك، وفي سقوطك، في صحتك، وفي مرضك، في غناك، وفي فقرك، في قوتك، وفي عجزك، يبقى معك، حتى عندما يتخلى كل العالم عنك.
من يحبك لا يحسب الأمور معك، من يحبك لن يُبرِّر عدم وجوده معك بالعقبات، والمعوقات، والمعضلات. الحب والحسابات ضدان لا يجتمعان، كالنار والماء، كالنهار والليل، كالبياض والسواد. من يحسبها معك، ويجد آلاف المبررات والأعذار ليبقى بعيداً عنك، لم يحبك ابداً، من لا يحاول جاهداً أن يقفز فوق الأسوار، من لا يحاول أن يعمل معك لكسر القيود ليكون بقربك، ومعك، ولك لا يستحق أن تبقى عليه، ولا أن تبكيه. أتبع الشغف، شغفك أنت، وليس أحد غيرك، شغفك في الناس من حولك، شغفك في الدراسة التي تختارها، شغفك في ما تمتهن من مهن، شغفك في هواياتك واهتماماتك. لن يجدي أبداً أن تتخلى عن الشغف في حياتك، ستتعب، ستتعب كثيراً، وسيملأك الخواء، ويستوطنك، ويشقيك كغولٍ عملاقٍ مهول. أنصت للصوت الخفي، المتواري في داخلك، هذا الصوت لن يخونك، ولن يخدعك أبداً.

كاتبة من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    “الجبناء لا يدخلون الجنة” إهـ
    العنوان ينقصه كلمة واحدة ليكون شرعياً! ليكون: الجبناء لا يدخلون جنة الحب!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    زوجتي الأولى والدائمة أكبر مني بسنتين! تعلمت الحكمة منها رغم طيشي!! ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية