لم يكن جفّ حبر النبأ عن اصطياد الولايات المتحدة الأمريكية لرجل إيران القوي الجنرال قاسم سليماني، في عملية مباغتة على تخوم مطار بغداد الدولي، حتى تطايرت الأسئلة والشظايا عن الدوافع التي أَملت على الرئيس دونالد ترامب اتخاذ “القرار الكبير” بتوجيه صفعة موجعة لإيران، والتداعيات المحتملة في ضوء التحدي ربما غير المسبوق أمام طهران التي بدت هيبتها على المحك.
ففي اللحظة التي كانت التحرّيات على أشدّها لسبر أغوار “الصندوق الأسود” للعملية الأمريكية التي أمر بها ترامب، تركزت الأنظار على “مسرح العمليات” في العراق الذي أفضت التطورات العاصفة فيه إلى شطب سليماني الذي كانت له اليد الطولى في تركيب معادلات هذا البلد على النحو الذي يضمن تثبيت النفوذ الإيراني في الحديقة الخلفية لطهران.
لم تكن الولايات المتحدة، في وارد التخلص من “مهندس” النفوذ الإيراني خارج بلاد فارس، وغالباً ما قاتلا معاً أيام المعركة ضد “داعش” في العراق حين كانت الطائرات الأمريكية في الجو وسليماني على الأرض، لكن أفول الإرهاب ذات الطبيعة السنيّة في سوريا والعراق دفع بالصراع نحو آفاق جديدة شكّلت شرارته تمزيق ترامب للاتفاق النووي، ووضع إدارته النقاط الـ12 في مواجهة إيران ونفوذها.
ورغم العقوبات الموجعة والمتدحرجة التي تجرعتها إيران، خصوصاً مع “صفر تصدير للنفط” فإنها استمرت في معاندة الوقائع الجديدة، في سياق تكتيكات تجلّت في مسألتين: الأولى ترتبط بمدى قدرتها على الصمود إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية لتحديد اتجاهات الريح، بحيث تذهب إلى التفاوض مع ترامب في حال تجديد ولايته، أو “تعود إلى قواعدها سالمة” مع مجيء رئيس ديمقراطي. أما المسألة الثانية، فتتعلق بمحاولة تحسين أوراقها أو الحد من خسائرها في مناطق نفوذها لاعتقادها بأن ترامب المنخرط بقضه وقضيضه في التحضير للانتخابات الرئاسية، أدار ظهره للمنطقة التي لا يريد أن يسمع بها.
هذه الخلاصة المتخيّلة التي اعتمدتها طهران في تعاطيها مع الولايات المتحدة “المهزومة” بعدما اعتقدت ان ترامب يلملم عصاه للرحيل من المنطقة، في ضوء تململه الدائم من وجود قوات له في سوريا وتجنبه المواجهات العسكرية في الرد على تحرشاتها، على غرار ما حدث في مضيق هرمز.
وفي اعتقاد دوائر متابعة أن إيران التي سقطت في أوهامها حاولت الهروب إلى الأمام في العراق، حيث استحكم المأزق في وجهها بعد انتفاضة العراقيين وديمومة حركتهم الاحتجاجية التي قلبت الطاولة مع اضطرار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي إلى الاستقالة، وفشل إمرار أي بديل موال لإيران، وتلويح الرئيس برهم صالح بالاستقالة.
وبدا أن الهروب الإيراني إلى الأمام في بغداد، حسب هؤلاء، انطوى على محاولة التحرش بالقوات الأمريكية لـ”نقل العدسة” من ساحة التحرير في اتجاه الصراع مع الأمريكي، الأمر الذي من شأنه تقويض حركة الاحتجاج وقمعها. وانطوى كذلك على السعي إلى دفع المركب من الخلف في معركة إخراج الأمريكيين من العراق في وقت مستقطع ينهمك فيه ترامب بمعركته الانتخابية.
وبهذا المعنى جاء التصعيد المتدرّج عبر قتل متعاقد أمريكي يعمل مع قوات بلاده في العراق، رد عليه الجيش الأمريكي بغارات قاسية على معاقل “حزب الله” العراقي على الحدود العراقية-السورية، ومن ثم الردّ على محاولة اقتحام السفارة الأمريكية من حلفاء إيران في بغداد بقتل سليماني في تطور وضع المنطقة فوق فوهة احتمالات غامضة.
هل سترد إيران؟ من الصعب الخروج بإجابات حاسمة، رغم كل التهديدات التي تنفجر عبر مكبرات الصوت، في طهران وعواصم نفوذها في المنطقة، إذ ثمة تقديرات متباينة في هذا الشأن.
بعض التقديرات ترى أن احتمالات الرد الإيراني في تضاؤل. فطهران غير القادرة، أو غير الراغبة في الذهاب إلى الحرب مع الولايات المتحدة أدركت أن ترامب قرر النظر إليها بـ”العين الحمراء” خصوصاً ان أي رد لا يحمل توقيعها لن يكون رداً، وأي رسائل بالواسطة لن تكون مجدية.
وإذ تعتقد دوائر خبيرة في شؤون المنطقة أن أي مجازفة أمريكية بتوجيه ضربة بالمباشر لأي هدف أمريكي سترد عليه واشنطن على طريقة الصاع صاعين، فإنها تبدي ميلاً إلى القول إن طهران التي تدير معاركها بعقل بارد ستتفادى أي مغامرات تأخذها إلى الحرب. ويرى هؤلاء أن استراتيجية النَفَس الطويل التي تعتمدها طهران تجعلها تُعلن معركة إخراج الأمريكيين من العراق كمكسب استراتيجي من خلال تحميلها العراقيين مسؤولية الدفع في هذا الاتجاه عبر الآليات الدستورية، ومن خلال رفع مستوى التحرش الميداني.
أما البعض الآخر، فيعتبر أن مكانة إيران في المنطقة وهيبتها كلاعب إقليمي تجعلانها مضطرة للرد في “المكان والزمان المناسبين” مهما كان الثمن، خصوصاً أن تراخيها إزاء الضربة الموجعة التي تلقتها سيزيد من مأزقها في التعاطي مع ساحات نفوذها المهتزة في المنطقة، لا سيما العراق ولبنان، وتالياً فلن يكون في وسعها إلا “دوزنة” ردّ محسوب يحفظ دورها كقاطرة المشروع الإقليمي المتعدد الساحات.
وفي اعتقاد منظري المحور، فإن إيران ستتولى الرد، إذ لا بد أن تكون بصماتها واضحة نتيجة اعتبارات عدة، منها الاستهداف المباشر وحجمه الذي كسرت به واشنطن قواعد اللعبة الماضية. فوفق هؤلاء، فإن سليماني كان موجوداً ضمن شعاع أمني محسوب على الأمريكيين، من دون تخفٍ، بما يعكس أن الإيرانيين لم يضعوا على الإطلاق في حساباتهم أي خطوة تهدد أمنهم هناك، وكانوا يتحركون في هذه الدائرة ضمن قواعد الاشتباك التي كانت قائمة بين الطرفين.
مجلس الأمن القومي الإيراني حدد ساحة غرب آسيا، موسّعاً من دائرة لائحة الأهداف، بما يعطي الحرس الثوري إمكانية تحرك أكبر في إطار بنك الأهداف، لا سيما بعد شمولها أفغانستان وأذربيجان وغيرها من الدول المحيطة جغرافياً.
في المدى المنظور، ليس ثمَّة ما يوحي بالقلق على مستوى ترجمة التوتر الإيراني-الأمريكي ميدانياً على الحدود مع إسرائيل، أقله في المرحلة الأولى. فاستخدام لبنان سيكون مرتبطاً بطبيعة الرد الذي سيستند على قراءة دقيقة للمنطقة وواقع كل الجبهات وظروفها ومعطياتها. ويقول مقربون من دوائر “حزب الله” إن دور الجبهة اللبنانية يتحدد على ضوء ما بعد الردّ الإيراني على عملية اغتيال سليماني. فإذا ذهب الردّ الأمريكي على الردّ الإيراني إلى مرحلة تدحرج للوقائع، عندها يمكن الحديث عن فتح المدى الأوسع للصراع وشموله الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية وعناصر الردع الحاكمة لها.
والاقتناع بابتعاد كأس الحرب عن الجبهة اللبنانية في المرحلة الراهنة، في رأي مقربين من الحزب، يعود إلى أن طهران هي المعنية مباشرة بالردّ أولاً، وباستهداف مصالح أمريكية بالمباشر ثانياً، إذ أن الهدف هو إعادة تثبيت قواعد الاشتباك بعدما ظهر أن الأمريكيين قد تخطوا القواعد المرسومة!.
اقتباس
إيران التي سقطت في أوهامها حاولت الهروب إلى الأمام في العراق