لعل من الأسئلة المحيرة السؤال عن الجدوى من الكتابة عموما، وعن الجدوى من الكتابة باللغة الفرنسية واستمرارها في الجنوب الغربي من الجزائر. أعتقد أن الكتابة حاجة بيولوجية ونفسية واجتماعية وجمالية تعكس خطابا فكريا وفنيا، وهي تفترض وجود قارئ. ومع ذلك يبقى السؤال معلقا حول ما يجعل الكاتب مهتما بالكتابة في وسط «عدائي» لها، أي لا يحقّق أدنى شروطها، ومع ذلك يأخذ الكاتب مساره في الكتابة، بغضّ النظر عن مستواها، مقارنة بفضاء آخر يحقّق شروطها؟ فما بالك في أن يكتب بلغة قراؤها في تناقص؟ إما أنهم لا يتقنون تلقي مثل هذه الكتابة، وإما أنهم هجروا الكتابة إلى ثقافة الصورة وتكنولوجيات الإعلام والاتصال. يحتاج الأمر إلى رسم توضيحي لهذه الفكرة الجوهرية والمحركة للكتابة الإبداعية، في أن يكون الكاتب مهتما بالكتابة فقط، دون أن يستبد به هاجس القارئ، أي أنّه يكتب فقط ليحقّق الرّغبة في ذلك.
لنتجاوز فكرة القارئ النّموذجي أو الضّمني أو المثالي، إلى فكرة القارئ الأنا/المحتمل، ذلك الذي قد يكون دافعا للكاتب في أن يؤسّس مساره الكتابي، فيكون هو الكاتب/القارئ المستمر في وعيه. يعرّج في تأمّلاته المتمحورة حول سؤال الكتابة عن الدّافع الذي يجعل الكتابة هاجسا من حيث كونها تمثل سطوة الفكرة، بعيدا عن كل ما قد يعانيه الكاتب من تهميش أو عراقيل أخرى تعيق بالضّرورة مساره في الكتابة. ومن ثم فـ»الناقد النّموذجي» هو ذاك الذي يتناول النصوص في خصوصياتها وعلاقاتها بإنتاجياتها، بعيدا عن أي تنميط، وهو ما يحيل إلى فكرة «الإخراج النصي» من دائرة الظل من لدن فواعل نقدية دون أخرى، وهذا جد مهم في إثارة قضية «الذائقة» التي تفصل بين نوعين من القراءة، قراءة مقبلة على النص، وقراءة مدبرة عن النص نفسه، وهو ما لا يمكن تفسيره سوى بالذّوق الجمالي الذي ينحو صوب نص دون آخر.
لا بد من محاولة لمناقشة هذه الفكرة/السؤال عن طريق البيئة والتربية والمحيط، الذي يشكل ربّما «ذاكرة» تقتات منها الكتابة بكل عفوية التّخييل المعرفي، فالبيئة التي يعيش فيها الكاتب تشكل زاده التاريخي في رسم معالم وأشكال الأفكار التي يطرحها، إضافة إلى الجرأة على الكتابة، التي ربّما لا تتوفّر عند آخرين، على الرغم مما يمتلكونه من قدرة على المناقشة وتطوير الأفكار.
إن تناول هذه الفكرة/السؤال يجرنا إلى قضية النصوص التي تعيش في الظل، وتلك التي احتلت منصّة الظهور، فتناولها النقد دون غيرها، وقد نرجع ذلك إلى عدة أسباب لعل أهمها قد تكون ضربة حظ، أو يعود ذلك إلى الدوائر المتحكمة في سوق الكتاب والدعاية له، التي ترتبط بمراكز القوة والضغط، والتي توجه العناية إلى نصوص دون أخرى. وقد يعود الأمر إلى الكاتب نفسه، الذي يكتب لقارئ لم يوجد بعد، ويحتاج إلى شيء من التراكم في فعل القراءة، ولعل ما يكتبه الروائي يوسف بن دخيس من نصوص يؤسس لمشروع يسعى إلى تقديم إضافة ستجد حتما قارئا يعيد إنتاج المعنى، الذي يرتسم مع كل قراءة لما يكتب هذا الروائي.
«عيون سعدية» حكاية داخل حكاية تقوم على توالد الأحداث والمواقف، ومنها ينطلق الصراع الخفي والمعلن في المشاعر والأهواء والمواقف والأحاسيس في اليقظة وفي المنام، وفي الأحلام وفي الكوابيس وفي الواقع.
إن المشروع السردي للكاتب يوسف بن دخيس، الذي يخطو خطوات ثابتة في مجال الكتابة السردية باللغة الفرنسية؛ يبني لنا عالما من خيال لواقع له من الخصوصية والثبات والقدرة على التحول، ما يجعله مميزا ليقدم الإضافة النوعية إنْ على مستوى البناء، وإنْ على مستوى التناول والمعالجة والطرح، وإنْ على مستوى التجربة اللغوية التي تنحو البساطة والسهولة واليسر في مثل ما يشبه السهل الممتنع، وفي مثل ما لا يدرك كله ولا يترك جلّه. كاتب حامل لمشروع كتابة اختمر في ذهنه وفي ذاكرته سنوات طويلة، ليتجلى في أعمال روائية هي على التوالي: «القلب والجسد» (Le Cœur et Le Corps) الصادرة في أغسطس/آب 2020عن (Les Editions du NET) في فرنسا، و»عيون سعدية» (Les Yeux de Saadia) الصادرة في سبتمبر/أيلول 2020، وعن الدار نفسها، وثالث أعماله، وعن دار النشر نفسها، هو «رسالة مجهول» (Lettre D’un Inconnu) والذي نال الجائزة الكبرى للمخطوط في فرنسا لسنة 2021.
«عيون سعدية» عيون مفارقة
إن المفارقة في رواية «عيون سعدية» يمكن ملاحظتها بدءاً من العنوان «عيون سعدية» الذي جاء مفارقا ويطرح إشكالا في ترجمته من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية لعدم وجود المثنى في اللغة الفرنسية، وقد اخترت ترجمته في الجمع على أن أقول (عينا سعدية) لأن العنوان في نظرية التلقي ينزاح إلى أكثر من الدلالة على عضوي النظر، إلى دلالات أخرى قد تستنبط من السياقات التي وردت في هذا النص.
لعل القارئ يجد نفسه منجذبا لعنوان هذا العمل السردي المميز «عيون سعدية» الذي يعد أول مفتاح من مفاتح هذا النص؛ وهو يعوّل على تراكمات كلمة عيون في الثقافة الإنسانية عموما وفي الثقافة العربية لما يرتبط بسعدية هذه الشخصية المحورية في هذه الرواية، إنها عيون سحرية تجعل من ينظر إليها يصاب بالدوار، ويقع تحت فعل غريب يشبه السحر، وتأخذه إلى عوالم عجيبة تشعره بالخوف والانبهار وبشيء من الرعب والخوف، هي عيون ساحرة تأسر من ينظر إليها لكونها عيوناً غريبة وعجيبة لا تشبه أي عيون، تشكل هذه العيون حركة مفصلية في بناء الرواية الدرامي، فهي عيون لم تخلق لترى، وإنما لكي تشاهَد لغرابتها التي تثير الدهشة، التي تسهم في تحريك الحدث وتزيد في غرابته وعجائبيته. فكيف ترى سعدية الأشياء والأشخاص؟ وكيف يرى الآخرون عيون سعدية؟
«عيون سعدية» حكاية داخل حكاية تقوم على توالد الأحداث والمواقف، ومنها ينطلق الصراع الخفي والمعلن في المشاعر والأهواء والمواقف والأحاسيس في اليقظة وفي المنام، وفي الأحلام وفي الكوابيس وفي الواقع. لهذه الحكاية راوٍ؛ سيحكي لنا على لسانه حكاية الكاتب رابح المولع بالكتابة السردية، الذي هو بصدد كتابة حكاية سعدية هذه المرأة العجيبة والغربية بطريقة تقابلية بين الواقع والخيال، وبين اليقظة والحلم وبين الفرح والكابوس. وتكاد تكون التقابلية والندية والمواجهة أساس البناء الدرامي لهذه الرواية؛ خاصة بين الحكايتين: حكاية رابح وأسرته، وحكاية سعدية وأسرتها. يمتزج الواقع بالخيال والخيال بالحلم والوهم، ليرسم لنا واقعا فنيا يقوم على المفارقة والغرابة، يجمع بين الإنس والجن وعالم الأشباح في توليفة عجيبة، جعلت الراوي يعتمد على التقطيع في سرد الحكايتين، وحسن الانتقال بين الأحداث والشخصيات، وحسن الوجود في الأمكنة والأزمنة، وهو يختار وضعا يجعلنا نتابع ما يسرد علينا بكثير من الشوق والتشويق، واستطاع أن ينقل لنا بأمانة حجم المعاناة في أطوارها، مع تقدم سرد الحكايتين بالتقابل وبالتداخل والتقاطع، وحسب ما يقتضي الحكي الذي جاء بضمير المتكلم على لسان الكاتب رابح في حكاية الراوي.
كاتب جزائري
عمق التناول لقصر التجربة ثانيية نقدية وسردية واعدة