عندما نشر ألكسندر بوشكين قصيدته التراجيدية «بولتافا» عام 1829 لم تكن النزعة القومية الأوكرانية ظهرت بعد. مع هذا ستساهم قصيدة بوشكين في تظهير الإختلاف بين صورة أوكرانيا عن نفسها وبين صورتها المحتقنة في الذاكرة الروسية.
تستعيد القصيدة، كخلفية تاريخية سردية لها، موقعة عام 1709 المنتهية بغلبة بطرس الأكبر، قيصر الروس، على شارل الثاني عشر، ملك السويد، في بولتافا، على بعد ثلاثمئة كلم في الشرق من كييف.
في معركة بولتافا يونيو / حزيران 1709 خسر شارل السويدي حلمه في مملكة شاسعة تمتد من البلاد الاسكاندينافية وبحر البلطيق وتلحق بها بولونيا وأجزاء من البلاد الألمانية وكذلك السهوب الأوكرانية امتداداً على البحر الأسود. لم يسعفه تحالفه مع قادة (هتمانات) القوزاق في حوض الدنيبر، ولا مع تتار القرم ومن ورائهم السلطنة العثمانية (الذي فرّ اليها بعد الهزيمة، وبقي فيها أسيراً لسنوات).
كانت السويد العظمى هذه مشروعاً في طور التحقق الى أن تطاير في إثر هزيمة شارل المغامر في بولتافا.
تمثّل طموح شارل في إقامة مُلكٍ بروتستانتي لوثري على أنقاض الكومنولث البولوني الليتواني الكاثوليكي. لكن التاريخ كان له مسار آخر. الإمبراطورية التي ستتوسع من بحر البلطيق حتى البحر الأسود (لن تبلغه إلا نهاية ذلك القرن) لن تكون لا كاثوليكية ولا لوثرية بل أرثوذكسية، هذا بعد أن اعتقدت أوروبا أنه لم يعد ثمة مجال لصعود قوة عظمى أرثوذكسية منذ ضياع القسطنطينية. لكن باني هذه الإمبراطورية الأرثوذكسية الفعلي، بطرس الأكبر، سيحرص مع هذا، مع ظفره على السويديين، في أن تكون مع ذلك جزءاً من الحضارة الأوروبية، وأن تُبنى عاصمتها الجديدة سانت بطرسبرغ بانتقاء ما أوتي لها من أنماط عمارة وتمدين مستوحاة من مدائن أوروبا، ومشيّدة من معماريين غربي وجنوبي القارة. نتيجة هذا الحرص كانت اتساع الفارق بين تأورب العاصمة الجديدة، وبين شرقية العاصمة القديمة، موسكو، لكن أيضاً، جذرية الفارق بين مدن روسية كبرى تدفقت في شرايينها معالم الحداثة، وبين ريف روسي يرسف بأغلال القنانة والجهل.
وبوشكين، غير الثابتة نظرته إلى صنيع بطرس الأكبر، كان انتماؤه الى النبالة يدعوه الى التفلت من ربقة الدولة الأوتوقراطية التي دشّنها بطرس. لكن بوشكين كان مع ذلك حصيلة خيار «التوجه غرباً» الذي سار به بطرس الأكبر في البداية. فشاعر الروس ابن واحدة من العوائل النبيلية الفرنكوفونية مطلع القرن التاسع عشر… وللتنبيه على قوة حضور اللسان الفرنسي في الأريستوقراطية وذوي الجاه والشأن في روسيا ذلك الزمان ليس هناك أفضل من «الحرب والسلم» لليون تولستوي، التي تظهر تحديداً كيف أن أكابر القوم في لحظة الاجتياح الفرنسي لبلادهم واحتلال موسكو 1812 كانوا يرطنون هم أيضاً بفرنسية، كثيراً ما تجيء صياغاتها كاريكاتورية من كثرة تأنّقها. كتب بوشكين قصيدته «بولتافا» في مرحلة حسّاسة من تاريخ روسيا. أراد فيها في الوقت عينه أن يميّز بين شكواه كأريستوقراطي مستنير ورومانسيّ في آن من الحكم الأوتوقراطي الذي لا يقيم وزناً للمشورة والنقد، ويحاصر الآداب بالرقابة، وبين تبرّمه من حركات التمرد العنيفة، التي لم يرَ لها أفقاً.
إلتباسات بوشكين انعكست في التراجيديا التي وضعها بلغة جمعت بين التأثر بطرائق اللسان الفرنسي في الحديث، وبين إعادة تأهيله المعجم الشفوي الروسي ليكون مناسباً للغة الشعر والأدب، بعيداً عن اللغة الروسية الكنسية.
جمع في قصيدته بين استعادة الخطوط العامة لتمكن بطرس الأكبر من السويديين وفرط حلفهم، وبين إظهار محنة قوزاق أوكرانيا ممثلين بالهتمان مازيبا، الذي انتقل من مناصرة الروس الى خيانتهم.
تداخلت دوافع الخيانة بين تعصب مازيبا لحرية قومه من القوزاق، وبين مآلات قصة حب مأسوية جمعت هذا الكهل بماريا الفتاة الجميلة، ابنة قاضي تلك النواحي. استشاط القاضي غيظاً من عصيان ماريا وذهابها مع مازيبا، فكان أن فضح لبطرس خيانة مازيبا له وتعامله مع السويديين. لم يصدّقه القيصر بل سلّمه لمازيبا الذي قتله. هذا قبل أن تنتهي قصيدة بوشكين بمازيبا وقد أصابه الجنون أمام روع حبيبته ماريا التي لم يحالفها الوقت لإنقاذ والدها في اللحظة ما قبل الأخيرة.
ليس الغرض القول بأن قصيدة «بولتافا» لبوكشين تختزن كل النظرة الروسية للأوكران، ولو أنه كان لها باع في انقسام الموقف من الهتمان ايفان مازيبا بين الروس وبين قوميي أوكرانيا.
عند الروس مازيبا هو خائن لعهدة بطرس الأكبر، وعند الأوكران هو بطل وطني تحرري. لكن إبداع بوشكين يتقوم في دمجه بشكل متقن وملغز بين صورتي الخائن وطالب الحرية وبين صورتي العاشق المطلق وسفاك الدماء في شخصية مازيبا. عقوبة كل هذا عند بوشكين إصابة مازيبا بالجنون.
السردية القومية الأوكرانية متمركزة حول الثقافة الريفية، منذ أيام شيفشينكو، وليس حول كبرى مدن البلد، وفي طليعتها كييف
في الوقت نفسه، تظهر قصيدة بولتافا كم أن الاحتقان الروسي الأوكراني متأصل في تاريخ الشعر والأدب بشكل لا يعود فيه من السهل تنحية القالب الرومانسي جانباً، كما لو أنه مجرد زخرفة، للنفاذ من ثم الى «المسائل الاستراتيجية».
هنا العواطف وقصص الحب المؤلمة والمجرمة جزء من الاستراتيجيا. عند الروس، الهتمان مازيبا ليس فقط خائن لعهدة القيصر والمتحالف مع العدو، بل هو أيضاً يرمز الى خيانة الأمانة ونكران الجميل. جميل إنجاد مازيبا وأمثاله من قادة القوزاق من جور النبلاء البولونيين الذين كانت لا تزال لهم اليد الطولى في أوكرانيا.
في الفترة نفسها تقريباً التي كتب فيها بوشكين قصيدته «بولتافا» كان تاراس شيفشينكو، أب النزعة القومية الأوكرانية لاحقاً، في طور انتقاله من وضعية القن الخاضع لسيده الى عتقه القانوني أثر تسديد البلاط الروسي الكلفة المالية اللازمة لذلك.
اصطُحِبَ هذا القن الأوكراني اليتيم يافعاً للخدمة المنزلية في سانت بطرسبرغ، ولما اكتشفت موهبته في الرسم تطوع موظفو البلاط لتحريره من نظام القنانة وتسديد المبلغ اللازم لتتميم هذا الاجراء. الهدف كان السماح للشاب بدخول أكاديمية الفنون الجميلة، الحكر على أولاد الناس. لكن شيفشينكو سيبرع أكثر في الشعر والأدب. الا أنه، مع كتابته بالروسية غير أنه اختار تأهيل الأوكرانية لتصبح لغة شعر، وتجميع الأغاني الشعبية والثقافة الشفوية الثرية لشعبه، لتصبح اللغة معه سبيلاً لتشكيل معالم الأمة.
رعاة شيفشينكو في الإدارة الروسية كانوا يعولون على نشاطه وأمثاله لتكريس روسية أوكرانيا، وتقويض الهيمنة الثقافية البولونية، المغايرة في الدين، منها. بيد أن شيفشينكو سيمضي في اتجاه آخر. الأوكران شعب مختلف عن الروس.
ردة فعل الروس على شيفشينكو جاءت من وحي سرديتهم المحتقنة ضد مازيبا، الخائن الأبدي الناكر لجميل تحريرنا له. بل أنه في حالة مازيبا، كان الرجل محارب يمكن أن يتوقع المرء انتقاله من طرف الى آخر في معركة. أما تاراس فهو فلاح قن يتيم، لولا الدولة وتحريرها له من القنانة، كان سيبقى خادماً في قصر سيده. أنى له تشكيل أمة؟ لذا جرى نفيه الى الأورال.
لم يقصد شيفشينكو مع ذلك تشكيل دولة أمة منفصلة. كان باعثاً لنهضة وطنية أوكرانية مبنية على الشعر الرومانسي، أي على الشعر المقتبس من الثقافة الشفوية الغنائية لشعبه، لكنه لم يكن يريد الانفصال عن الإمبراطورية، بل إعادة تشكيلها، أقله في الحلم.
بخلاف قوميي أوكرانيا في القرن العشرين والآن، كانت النزعة «السلافية الجامعة» أساسية عنده. الروس والأوكران والبولونيون عنده أخوة، يتحدرون من أرومة واحدة، ولزم لهم اتحاد يجمع شملهم، رغم انقسامهم في الدين بين أرثوذكس (الروس والأوكران) وكاثوليك (البولونيون) ورغم أنهم شعوب ثلاثة لكل منها شخصيته ولسانه. بالتوازي، شدّد شيفشينكو على أن الأوكران هم الأهل قبل سواهم لحمل لواء «الفدرالية السلافية» هذه. فثقافتهم وسيطة بين الروس والبولونيين، وهم أكثر تواضعاً من عجرفة نبلاء بولونيا (كان عُشر الشعب البولوني من النبلاء!) ومن صلف الدولة الأوتوقراطية الروسية وموظفيها. هذه التعاضدية السلافية لم يعد لها أثر عند قوميي أوكرانيا اليوم، من أطلسيي الهوى، ولا في روسيا نفسها، التي اندثرت الحماسة فيها لجمع شمل السلاف، لصالح «أوراسية» لا هي قادرة على تقبل عملية إبعاد روسيا عن أوروبا، ولا هي مهتمة بإعادة التشديد على السمة الأوروبية لروسيا.
في المقابل، ما لم يزل راهناً في السردية القومية الأوكرانية أنها متمركزة حول الثقافة الريفية، منذ أيام شيفشينكو، وليس حول كبرى مدن البلد، وفي طليعتها كييف. هذا في مقابل قومية روسية أكثر أوروبية ولو كابرت على ذلك، كونها في الأساس نزعة مدينية، لا بل سليلة نظرة المدن الروسية الكبرى بشكل فوقي للأرياف جميعها، كما للسهوب، كما لو أنها مستعمرات في خدمة المدن، وفي هذا خيط واصل من بوشكين الى بوتين، مروراً بلينين، رغم كل محاذير اقتراف هذا النوع من الثلاثيات.
كاتب لبناني
يا لها من روعة في الكتابة الصحفية، هنيئا لصحيفة القدس العربي العريقة بكاتب مثل وسام سعادة . بصراحة ، هكذا ينبغي ان يكون العمود الصحفي ، واما فبلا .
ابدعت الربط واعدت الحنان إلى ايام القراءة. شكرا
مقال تأريخي ثقافي جديد عن نشأة أوكرانيا !
شكراً للكاتب الفذ !! ولا حول ولا قوة الا بالله
سرد تاريخي ادبي يوضح حقيقة تغول الدب الروسي واستعلاءه على شعوب تهوى الحرية والحياة الاجتماعية المسالمة المعتدلة
مقال ممتاز لكاتب محترم وسام سعادة يغنينا دائما إذ انه انسكوباديا معرفة وأسلوب مميز بسيط مفهوم جدا.