ما أن ظهرت أنماط جديدة في التعامل السردي مع التاريخ متزامنة مع صعود النقد التاريخاني الجديد عند بول فيين وهايدن وايت وبول ريكور حتى انقلبت صورة التاريخ وصارت عبارة عن سردية ككل السرديات يمكن تطويرها ونقدها وتفكيك أبعادها برسميها وشعبيها ومعلنها ومسكوتها ومركزيها وهامشها. ولم تعد كتابة رواية التاريخ ببعيدة عن النقد التاريخاني الجديد وهي تستدعي كتابة المتخيل التاريخي Historical Imagination المصطلح الذي اجترحه هايدن وايت وفلسف أبعاده، ليكون الفرق كبيرا بين النظرية التاريخية التقليدية والنظرية التاريخية المعاصرة التي ترى أن أصل كل مؤرخ هو روائي؛ فالمؤرخ يفسر التاريخ سرديا ضمن نطاق نقد الايديولوجيا حتى لا قطيعة بين التاريخ والسرد. ومن هنا تكون الموضوعية هي مشكلة التاريخ الأساسية.
وإذا كان المتخيل التاريخي سمة ما بعد حداثية من سمات «رواية التاريخ» ــ وهو مصطلح حاولنا ترسيخه في كتابنا السرد القابض على التاريخ ــ فإن الرواية التاريخية الكلاسيكية كرواية «إيفانهو» 1822 لوالتر سكوت أو روايات جرجي زيدان تخلو من هذا المتخيل، لأنها وظفت المتخيل السردي في حدود تفسير التاريخ، وهو ما يسميه هايدن وايت (النمط الأطروحي في الخطاب التاريخي) ويرفضه لأنه يتناسى السرد الذي به يتشكل هذا الخطاب، ممثلا بمقولة بنديتو كروتشه (حيث لا يوجد سرد لا يوجد تاريخ). لكن بول ريكور يتبنى رأيا آخر في مسألة تفسير التاريخ سرديا، مفاده أن الإحالة على التاريخ هي إحالة قصدية من مستوى الزمن التاريخي إلى مستوى زمنية السرد، وسمى هذه الفاعلية بـ(القصدية التاريخية) التي معها تكون فرضية وجود قطيعة ابستمولوجية بين القارئ والتاريخ حاصلة على ثلاثة مستويات هي: الإجراءات/ الكيانات/ الزمانية. ومهمة الروائي هي ردم هذه القطيعة، فالسرد يحايث التاريخ ومنطق السرد هو نفسه منطق التاريخ يقول ريكور: (أطروحتي هي أنّ الأحداث التاريخية لا تختلف جذريا عن الأحداث المؤطرة بالحبكة) (الزمان والسرد، ص325)، ومن ثم يكون التفسير التاريخي شكلا سرديا أيضا وظيفته (جعل شيء ما يحدث، وفعل شيء لكي يحدث شيء).
إن اضطلاع الروائي بهذه الوظيفة الابستمولوجية هو ما يجعلنا نعيد النظر في تقييم كثير من النصوص الروائية الكلاسيكية التي تناولت التاريخ ونُشرت خلال القرن التاسع عشر لا على صعيد الرواية الأوروبية حسب، بل الرواية العربية أيضا؛ فالمسافة الزمنية في كتابة الرواية التاريخية متقاربة بينهما إلى حد بعيد.
وسأخصص القول في الرواية العربية التي كتبها جرجي زيدان وعلى يديه تأسست مواضعات القصدية التاريخية، غير أن هذا التأسيس للقصدية كثيرا ما يُغمط حقه. فمؤرخو الرواية العربية يشيحون بأنظارهم عن زيدان ويولونها صوب نجيب محفوظ أو طه حسين كما أن نقاد الحداثة يعلون من شأن المتخيل التاريخي في رواية التاريخ ومن ثم يؤاخذون جرجي زيدان لأنه كتب الرواية التاريخية وأغفل توظيف هذا المتخيل، ولأنه اتخذ من التاريخ دليلا وهاديا فقدّسه وخدم مركزيته وكأن المتخيل التاريخي هو المحرك الأوحد من محركات كتابة الرواية التاريخية.
بالطبع جرجي زيدان غني عن الدفاع عنه أو تبرير مشروعه السردي في كتابة التاريخ، وهو الذي كتب تاريخ آداب اللغة العربية بعدة مجلدات، هذا إلى جانب كم غير قليل من التآليف في شتى صنوف الفنون والعلوم والآداب واللغة فضلا عن تأليفه كتبا في الرحلات والروايات. وهكذا يغدو جرجي زيدان لوحده ظاهرة فنية من ظواهر الثقافة العربية وعلامة فارقة في تاريخ الادب العربي، لتعدد مواهبه وعمق ثقافته فهو المؤرخ والروائي والناقد والصحافي. وإذا ما أطلقنا على هذه الظاهرة الإبداعية الفريدة اسم الجرجزيدانية فلن يتيه عنها السامع ولن يخطئ معناها حتما.
فلقد أنتج جرجي زيدان في مجال كتابة الرواية التاريخية أكثر من عشرين رواية بدأها بفتاة غسان وارمانوسة المصرية التي صدرت عام 1896 ثم فتاة القيروان وشجرة الدر وصلاح الدين الايوبي واستبداد المماليك وغيرها. وقد ترجمت هذه الروايات الى مختلف اللغات ولكنها لم تسلم من مؤاخذات النقاد ومؤرخي الرواية، لا من الناحية الفنية حسب، بل من الناحية الموضوعية المتعلقة باختيار شخصيات بعينها وانتخاب وقائع تاريخية لذاتها. ولا نختلف في أن الرواية العربية ولدت قبل أن يكتبها جرجي زيدان بحوالي العقد أو العقدين ولكن الذي نختلف عليه هو أن تكون مساعيه ومساعي من سبقه في كتابة الرواية متلكئة ومعاقة ومن ثم تكون ولادتها (شديدة التلعثم لحظة، ومليئة بالوهم تُرَهِّنُ المقامة لحظة أخرى، وهي في الحالين بعيدة البعد كله عن الشرط الاوربي الذي سوّى روايته)، الرواية وتأويل التاريخ، فيصل دراج، ص5. والمحصلة الشائعة أن كتابة الرواية التاريخية مرهونة بمنظور نجيب محفوظ وهو رأي لا ينفرد به الناقد دراج وحده، بل تبناه الرعيل الأول من نقاد الرواية ومن جاء بعدهم، والأسباب وراء ذلك كثيرة ومعروفة.
بالطبع مشرط النقد حاد على زيدان أيا كانت منهجيات هذا النقد، لا لشيء سوى أن أمر الريادة مرهون بهذه الرواية وأن الاعتراف به محفوف بمخاطر سحب الثقة من روائيين لا مجال للتملص من الاعتراف لهم بالريادة. ومن ثم لا طريق لبلوغ ذلك سوى تقزيم من سبقهم في كتابة الرواية التاريخية وتعويق محاولاتهم في انشائها كي يخلو المجال للرواية الواقعية فتكون هي الوليدة المتعافية القادمة من ولادة ميسرة. وبغض النظر عما حواه كتاب الناقد دراج من جمع غير متجانس بين روايات القرن التاسع عشر وروايات القرن العشرين وبين تاريخية قسم منها وواقعية الغالب منها، فإن ما أخذه دراج على إبراهيم المويلحي وحافظ إبراهيم من أنهما تمسكا بالأصل البعيد أي المقامة، ولم يكونا كالروائي الأوربي (ديفو وجول فيرن) يتحركان باتجاه المستقبل، يستدعي منا وقوفا متمليا نستضيء فيه بأقباس من وهج الظاهرة الجرجزيدانية وكالآتي:
أولا/ أن الرواية العربية الوليدة ما كان لها أن تتعثر في شروط صعودها، ولو تعثرت لما كتب جرجي زيدان هذا الكم غير القليل من الروايات التاريخية.
ثانيا/ أن اعتبار محمد حسين هيكل استلهم «زينب» من تعاليم جان جاك روسو ومن ثم (لا غرابة أن تكون الرواية العربية جنسا أدبيا وافدا)، الرواية وتأويل التاريخ/ ص35، مردود عليه بما ذكره الناقد نفسه في موضع آخر وهو أن المويلحي وإبراهيم تمسكا بالمقامة أصلا في سردياتهما.
ثالثا/ اعتبار الرواية ولدت في تاريخ مقيد و(مزودة بإعاقة مزدوجة فهي أثر متأخر للأدب العالمي الذي هو صورة أخرى عن الزمن الاوربي الذي شاءت الارادة المنتصرة أن يكون عالميا) ص39ـ40، يصح في حالة واحدة وهي محالة طبعا وتتمثل في أن يكتب جرجي زيدان روايات عن التاريخ الاوروبي وليس التاريخ العربي الاسلامي.
رابعا/ أن ميلاد الرواية في القرن العشرين تأثر بكتابين هما «الاستبداد» لعبد الرحمن الكواكبي و«الاسلام بين العلم والمدنية» لمحمد عبده، ثم برواية واحدة من روايات فرح انطون هي «الدين والعلم والمال أو المدن الثلاث»، هو الاخر افتراض بعيد لأنه يتناسى كتابة جرجي زيدان للرواية التاريخية.
خامسا/ قوله (إن طه حسين بنى «الفتنة الكبرى» على تواريخ الطبري واليعقوبي والامامة والسياسة) هو تقريض لصنيع زيدان الذي حرص على افتتاح كل رواية بمسردين: الاول فيه ترتيب لشخصيات الرواية، والاخر فيه تحديد للمراجع التي اعتمد عليها، وفي هذا تأكيد للقصدية التاريخية التي توضحت في» الفذلكة التاريخية» التي بها يفتتح زيدان أغلب رواياته متخذا من الصدفة محركا للتاريخ، مهيئا بذلك أذهان القراء لأجواء العصر الذي جرت فيه الأحداث.
وصحيح أن أغلب أبطال رواياته شخصيات ذكرها التاريخ بيد أنه حرص على توزيع البطولة بين هذه الشخصيات وشخصيات من عامة الناس ففي رواية «العباسة أخت الرشيد» 1906 نجد الجارية عتبة تتقاسم البطولة مع العباسة. وفي رواية «أرمانوسة المصرية» نجد الجارية هي الخادمة والمربية وسماها بربارة وجعلها بطلة كأرمانوسة.
ولا يتجمد زيدان عند حدود ما ذكرته كتب التاريخ بل يستعين بالأساطير مما له صلة بموضوع الأحداث. ولا يكاد زيدان يخالف السرد العربي القديم وهو يقطع ويوصل ثم يقطع وهكذا رغبة في جذب انتباه القارئ، وينهي الرواية وقد صار العاشقان عروسين ومعهما بالطبع بربارة.
*كاتبة من العراق