مع مقتل المعلم الفرنسي صاموئيل باتي على يد إرهابي شيشاني وبطريقة بشعة تذكرنا بتنظيم «الدولة» ومن شابهه، نجد من جديد من يبرر أو يتفهم أو يقسم المسؤولية بين الجاني والضحية.
يذكرني ذلك بجرائم التحرش الجنسي والذي تتحمل دائما الضحية مسؤولية ما حدث لها، لعدم احتشامها أو إثارة شهوات القاتل.
الخروج عن كل قوانين الإنسانية
عندما حرق تنظيم «الدولة» الطيار الأردني الشهيد معاذ الكساسبة عام 2015 لم يحمل أحدا المسؤولية للطيار بل للتنظيم لخروجه عن كل قوانين الأسر والإنسانية. عندما يقتل المستوطنون الإسرائيليون في القدس حرقا الطفل الشهيد محمد أبو خضير عام 2014 لن نقبل أن تجد الصحافة والقضاء الإسرائيلي أعذارا مخففة للحكم.
جريمة القتل لا يجب أن تجد من يبحث عن مساواة الجاني بضحيته وإلا فنحن لسنا في حاجة لأي قانون ينظم المجتمع، بل قانون الغاب يكفي. هذا ما نراه في بلادنا بجرائم الشرف والتي تعفي وتطلق سراح القاتل، عكس قوانين الدول الغربية والتي تحكم على جريمة الشرف بشكل أقوى بسبب وجود سلطة للقاتل على ضحيته.
ما أقول لا يعني أن لا نفهم أسباب وظروف الجريمة لنتمكن من أخذ الإجراءات اللازمة لمنع تكرارها، التمييز بين السبب والنتيجة مهم جدا لأن ما توجب عمله مرتبط بالأسباب، فالتحرش الجنسي سببه الكبت الجنسي وليس ما تلبسه الضحية، هذا يعني أن الإجراءات المتخذة يجب أن تكون موجهة نحو حل أزمة الكبت والتعامل بين الجنسين، وهو ما يدفعنا إلى مساعدة الشباب كتخفيض نفقات الزواج ماديا، أو مساعدة العائلة المكونة الجديدة، وليست إجراءات لفرض النقاب على النساء، أو تخفيف الأحكام على الجناة وقبول جرائمهم.
بالعودة لمقتل الاستاذ الفرنسي ذبحا، فاتهامه أنه السبب في ذلك هو تجن عليه، ما قام به هو جزء من أساليب التعليم الغربية والتي تفضل النقاش في الإشكاليات المطروحة داخل المدارس لإثارة النقاش بدل خلق الكره المتبادل ورفض الآخر، وليس الاستسلام والتراجع، حرية التعبير هي أحد أسس المجتمع الغربي، وهي في فرنسا محدودة نسبيا عن طريق ربطها باحترام قيم العلمانية واسس الثورة الفرنسية، على خلاف أمريكا أو بريطانيا حيث لا توجد حدود تقريباً.
الإعلام الساخر
الإعلام الساخر هو تقليد ثوري قديم حين كانت الصحافة منذ قرون، ما بعد الثورة الفرنسية تتهكم دائما على رجال الدين المسيحيين وعلى الكنيسة وعلى الساسة، وهو ما أسس لثقافة النقد الساخر ذات الانتشار الواسع وبقبول كل الأطراف.
الوجود الإسلامي في المجتمع الغربي حديث النشأة نسبيا، بدأ مع النصف الثاني من القرن الماضي، وأخذ منذ التسعينيات بعدا جديدا قريباً لما حدث في دول المشرق والمغرب العربي من حيث الارتداد نحو التعصب الديني وظهور الإسلام السياسي، المجتمع المسلم بفرنسا تأثر إذا بالتغيرات السياسية والاجتماعية في الدول المصدرة للهجرة.
من ناحية أخرى ما نراه حالياً في الغرب ومنذ ظهور الحركات الإسلامية المتطرفة هو بالحقيقة امتداد لهذه الحركات وليس التطور الطبيعي للمكون المسلم، ولا رد فعل على ما يسمى تهميش جزء من المجتمع ذي الأصول المسلمة. دليل ذلك أن هذا التهميش كان أكثر وضوحا بالستينيات والسبعينيات حين كان هؤلاء العمال المهاجرون يسكنون مدن الصفيح.
من ناحية أخرى فإن الأفراد المتورطين بالهجمات الإرهابية ينتمون بشكل عام لطبقة وسطى تعيش ظروفا مادية حسنة ولا ينتمون حقيقة لطبقة الفقراء. ولكن يمكننا ملاحظة أن الذهاب إلى صيغة متشددة للإسلام بفرنسا والغرب بشكل عام هو امتداد لما يحدث في دول المهاجرين الأصلية دافعا في اتجاه الانعزالية والخصوصية والتي لا تتوافق مع ما يعتبره الناس هنا أسس مجتمعاتهم. مثال ذلك محاولة الفصل بين الذكور والإناث في المدارس خصوصا دروس الرياضة، رفض مشاركة البنات أو حتى الأولاد بدروس تخص البيولوجية أو التوعية الجنسية، التميز بالمظهر لإظهار الانتماء الديني، كل هذه الأشياء تطرح على «الدولة» إشكالية التعليم العلماني ومساواة الرجل بالمرأة وتوحيد المناهج التعليمية.
للأسف فإن تضخم التيار المحافظ الإسلامي أعطى للمتشددين والمتزمتين فرصة الوجود والتأثير بالشباب عن طريق ايجاد حاضنة إجتماعية تتقبل طروحاتهم وعائلات تربي أبناءها على رفض النموذج الذين يعيشون بداخله، مما يخلق نوع من إنفصام الذات وبلبلة فكرية تسيء إلى التطور الحر واكتساب وسائل الفكر المستقل.
هذه الأعمال الإرهابية حتى ولو كانت فردية ستنعكس على المجتمع المسلم الغربي والمسلم الفرنسي بشكل خاص مهمشة المسلمين أكثر وأكثر، فهو الآن متهم بكونه أعطى الغطاء الذي منح المجرمين شرعية جرائمهم، هذا ما نسمعه الآن بوسائل الإعلام الغربية وما عبر عنه مئات آلاف المتظاهرين بعد الجريمة.
الخطاب الذي ألقاه الرئيس ماكرون قبل أسابيع قليلة حول الانفصالية التي يتهم بها المسلمين أخذت مع هذآ الحدث بعدها الحقيقي، هو بخطابه الداعي إلى إسلام تنويري يفتح المدارس للغة العربية والجامعات للدراسات الإسلامية تاريخا وحضارة، ودامجا الطلبة من أصول إسلامية مع الآخرين بدون تمييز وواعدا بفتح مجالات التكوين المهني والعمل لهم، مبعدا بذلك الأصوليين والمتشددين القابضين على أدمغة الشباب المسلم ، هذا الخطاب يعطينا طوق نجاة حتى لا نصبح الضحية النموذجية لليمين المتطرف الذي ينتظر على الأبواب، وقد يصل السلطة بالانتخابات الرئاسية المقبلة، برنامجه السياسي لا يحتوي على أي بعد تنويري وانما فقط عنصري وإقصائي، هذا الخطاب الذي يجد بما حدث وسيلة للتطور والسيطرة مستغلا غضب الناس وتزايد العداوة تجاه المسلمين.
التفاعل الإيجابي مع هذا الخطاب من المؤسسات الإسلامية وخصوصا أنها لم تندد بالخطاب بل دعمته في معظم ما جاء به، العمل الدؤوب لإبعاد الأصوليين والقبول بدون تردد بالدفاع عن القيم المؤسسة للدولة الفرنسية، التضامن الواضح مع بقية الشعب الفرنسي المصدوم وإظهار ذلك بكافة الوسائل المتاحة واستنكار ما حدث بأعلى صوت وهذا ما بدأ، المشاركة بالحملة الانتخابية المقبلة تحضيرا وتصويتا قد يعيد المكون المسلم في فرنسا لمربع المواطنة المسالمة الفاعلة بنفسها وبمجتمعها وتراجع خطاب الكراهية بين الجانبين.
نرى العدد الكبير من الكفاءات بكل المجالات بين أبناء الجالية وهم يساهمون كأطباء ومهندسين وتقنيين وعمال وفي كل المجالات المنتجة. يستطيعون حقا لو استرجعوا حقهم بالفكر المستقل وممارسة دينهم إن أرادوا مثل الآخرين (الهنود أو الصينيين مثلا) دون خلط الدين بالسياسة أو القانون أن يصبحوا مصدر إلهام للمجتمع الفرنسي والغربي وحلقة وصل لبناء الجسور بين الشعوب بدل العيش في متاهات الأوهام.
كاتب ومحلل سياسي
تتمة…
لماذا كل من يحاول تحليل وتفسير الظاهرة يتهم بالتبرير؟ أين هي حرية التعبير التي يتبجحون بها؟ أم هي حكر عليهم بينما يتم ترهيب الآخرين الذين يحاولون فهم ما جرى والحجر عليهم بدعوى أنهم يبررون؟ ألا يوجد فرق بين التفسير والتبرير؟ هل رجعنا إلى عصر محاكم التفتيش في القرون الوسطى الفرنسية؟ في الختام حتى لا ” نتهم” بالتبرير نؤكد ألا أحد له الحق في إعمال “شرع يده” والتعرض للآخرين بالعنف أو القتل وإلا ستصبح فوضى عارمة. فإنزال العقاب بالمخالفين هو من اختصاص الدولة وهذا الأمر لا جدال فيه. رسول الله صلى الله عليه وسلم خط أحمر.
رغم كل الجرائم البشعة التي حصلت على مدى 9 سنوات في سوريا ، علمتنا الثورة المباركة دروساً عديدة نافعة لم تعرفها كثير من الشعوب غيرنا و ربما أن الله يريد تأهيلنا للمستقبل . من ذلك ، أن جريمة قتل بشعة تحدث فيستعجل الناس البسطاء الحكم عليها بأن القاتل “فوقه و تحته” و القتيل “مسكين يا حرام” . تبين لنا في أحداث عديدة و نتيجة تتبع للعصابة المتحكمة و من ضمن ذلك ما تفعل عن طريق إعلامها و الأقلام المسخَرة لها أن القاتل كان مخابرات و المقتول كان مخابرات و أحياناً من نفس الفرع . لذلك ما المانع أن يكون ما حصل فرنسا نفس الشيء ؟ هكذا يتساءل بعض أهل سوريا .
إن لم يرعوي المسلمون في أوروبا لحقيقة وضعهم المتناقض مع القيم الأوروبية، فسوف نشهد شلالات من الدماء التي سندفع ثمنها من الشباب والأبرياء من منطقتنا الحوض متوسطية
مقال جميل يتكلم عن واقع مؤلم ولكن في نقاط اختلف معك فيها الديانات لا يوجد فيها ارهاب سواء كانت اسلام مسيحية ويهودية فكلها بالاصل تدعوا الى الخير والاخلاق وليس الارهاب
شكرا لاعطاءك مجال لي لكتابة ملاحظتي
من عاش في أوروبا لسنوات طويلة ، يدرك أن دولها لا تحكمها منظومة من القيم و إنما مصالح مادية قاسية و نفس الشيء ينطبق على مجتمعاتها باستثناء أفراد قليلين لديهم أخلاقيات فردية و ليست مجتمعية . الموجود “جاهلية” و ليست “حضارة” و هذا الموجود يستر عورته التقدم العلمي و التقني مع بحبوحة عيش تتراجع باستمرار . بل إن النخبة لديهم دقت نواقيس الخطر حول ازدياد التوحش و انعدام الطمأنينة ليس فقط عند الأهداف السهلة “المهاجرين” و لكن عند السكان الأصليين الذين تطلب الدولة العميقة توحدهم حول محاربة “الآخر المختلف بالدين و اللون و الأصل” مهما كان هذا الأخير رائعاً و مسالماً و طيباً .
شكرَا أخي نزار بدران على هذا التحليل الجيد. للأسف ماكرون يستخدم خطابات على الطريقة الأردوغانية والترامبية ظنًا منه أن هذا سيجلب له النجاح في الإنتخابات المقبلة أمام الإمتداد الشعبوي واليمين العنصري في فرنسا وأوربا والعالم عمومًا. برأيي ماكرون يقود سياسة مستوحاة من ماضي استعماري غابر ودوافعها الأساسية اقتصادية للسيطرة على منطقة البحر المتوسط والمشرق العربي وأفريقيا, وتحت مظلة الإتحاد الأوربي هذه المرة. عمومًا هذه السياسة الترامبية هي التي تمزق العالم وتقود إلى مزيد من التطرف والتوحش. وكما ذكر الأخ ملاحظة في تعليقه. وطبعًا تقع علينا جوء من المسؤولية هنا في مجابهة التشدد والتطرف الديني ولكن من ناحية ثانبة فالإستبداد السياسي والظلم والقمع يغذيها بشكل مباشر والتخلص منه ضرورة ملِّحة أيضًا