بمناسبة كل انتخابات يفيق الجزائريون، على أزمة نظامهم السياسي، العاجز عن إنتاج نخبة سياسية بالحجم والكيف المطلوبين. «فاجعة» يعيشها الكثير من الجزائريين هذه الأيام وهم يشاهدون، على المباشر، ما وصل إليه حال هذه «النخبة» الطامعة في منصب رئيس الجمهورية، بعد أن تقدم الكثير من «الوجوه» للظفر بهذا المنصب المهم، من دون توفرها على الحد الأدنى المطلوب.
ابتذال ساهمت فيه بعض القنوات التلفزيونية الخاصة التي روجت لهذه الوجوه التي صدمت الجزائريين «بخطابها «وشكلها، وهي تتوجه إلى مقر وزارة الداخلية، لطلب الاستمارات القانونية التي تسمح لها بالانتقال إلى المحطة الثانية، في هذه المنافسة الرئاسية، بدل الانتقال إلى مصحات نفسية أو لطب الأسنان، كما كان رأي الكثير من رواد المواقع الاجتماعية. «وجوه» استغلت هفوات القانون الانتخابي والحق الدستوري في الترشح، لكي تظهر لمدة دقائق لكسب شعبية وهمية بطريقة ميسرة وغير مكلفة.
المواطن الذي لم ينس أنها ليست المرة الأولى التي يصادف مثل هذه الوجوه، فقد قابلها أكثر من مرة داخل الأحزاب السياسية، وفي قوائم المستقلين وهي تترشح لمواقع السلطة المحلية، وحتى البرلمان لتصل أخيرا إلى الرئاسة! التطلع إلى أهم منصب سياسي، يحيل إلى الأزمة التاريخية التي عانى منها ولايزال النظام السياسي الجزائري، في إنتاج نخبة سياسية بمواصفات وشروط معقولة، تتصدى للقيام بوظيفتها السياسية التي لا يخلو منها أي مجتمع.
فقد رسخ الاستعمار الاستيطاني الذي ابتليت به الجزائر، تقسيما عنصريا، تولى بموجبه الأوروبيون مواقع النخبة مقابل العنصر الوطني الذي خصصته الحالة الاستعمارية للعمل اليدوي والبطالة، كقاعدة عامة لم يفلت منها إلا طويل العمر من الجزائريين. علما بأن حالة الجزائر لم تكن أحسن خلال الفترة العثمانية الطويلة 1514- 1830التي تميزت بضعف انتشار التعليم وقلة الإنتاج النخبوي، رغم التلميع الذي يحاول القيام به بعض المؤرخين الجزائريين، من أبناء المدرسة التحريفية، في الآونة الأخيرة، لهذه الفترة التاريخية التي مهدت موضوعيا للاستعمار الفرنسي. علما بأن الجزائر لم تعرف قلة الإنتاج فقط، عندما يتعلق الأمر بالنخب العلمية والثقافية والسياسية، بل عانت كذلك من انقسامية هذه النخبة المنقسمة بين المعرب الديني أو الشبه الديني الذي كان يحق له مزاولة العمل السياسي، بل احتكاره، مقابل المثقف المفرنس الذي لا يملك أي شرعية في هذا الميدان. بعد أن حدد له تقسيم العمل الذي سارت عليه الدولة الوطنية، الإدارة والاقتصاد كمجال عمل. تقسيم عمل لم يسمح للدولة الوطنية ومؤسساتها بالاستفادة من كل نخبها، في الميدان السياسي، على قلتها.
انقسامية النخبة التي تم تجسيدها في صور كاريكاتيرية عاشها النظام السياسي ومؤسساته اثناء الحركة الوطنية وثورة التحرير وفترة بعد استقلال البلاد لاحقا. فقد كان من الشائع أن «يشتغل « المثقف ككاتب عند ضابط جيش التحرير شبه الأمي، يكتب له ما يطلب منه من نصوص، من دون أن تكون له علاقة باتخاذ القرار السياسي الذي احتكره محدودو التعليم، بل الأميون في حالات كثيرة. وهو ما يسمح لنا بأخذ فكرة عن المكانة الدونية التي كان يحتلها النص المكتوب وكاتبه على حساب الفعل السياسي المباشر، داخل هذه التجربة السياسية التي أوكلت مهمة تبرير محطاتها السياسية ومشاريعها مهما تناقضت، إلى هؤلاء الكتبة.
أحزاب سياسية ترشح للعمل التشريعي والسلطة المحلية الأمي وشبه الأمي في مجتمع أصبح السائد فيه بطالة المهندس والطبيب
وهو ما أنتج تلك الصور الكاريكاتيرية التي سادت داخل مؤسسات الدولة الوطنية كحزب جبهة التحرير عندما كان في الحكم وحيدا لمدة ثلاثين سنة تقريبا. وبما أن الأسباب نفسها تؤدي إلى النتائج نفسها، فقد تكررت وتوسعت هذه الصورة داخل أحزاب مرحلة التعددية لاحقا. فقد ساد داخل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، باعتبارها أكبر تجربة تجنيد سياسي شعبي عاشتها الجزائر، الاتجاهات الثقيلة نفسها الملاحظة خلال الأحادية. فقد عرفت هذه التجربة التي فرخت لاحقا الكثير من الجماعات الإسلامية المسلحة، سيطرة واضحة لأصحاب المهن الحرفية البسيطة والتجار من أصحاب المستويات التعليمية المتواضعة، الذين سيطروا وتحكموا في القرار الاستراتيجي، على حساب العدد الكبير نسبيا من الجامعيين الذين جندتهم هذه المدرسة الإسلامية، وهي في حالة صعود مؤقت وقصير.
التاريخ الثقافي وحده لا يفسر هذا الشحُ الواضح في الموارد البشرية الذي يميز الجزائر، ونحن نتكلم عن النخبة السياسية. فالوضع السياسي والمؤسساتي الحالي، يفسر هو الآخر وبدرجه كبيرة، تعلق الأمر بالحزب السياسي أو مؤسسات الدولة الأخرى التي لا تتمتع بقدرة كبيرة على إنتاج النخب السياسية أو استقطابها على قلتها عندما تنتجها مؤسسات أخرى كالفضاء الجمعوي أو الجامعة. يكفي أن نعرف أن 2% فقط من الجزائريين منخرطون في هذه الأحزاب، وأن هذه النسبة تتقلص إلى 1% فقط، عندما يتعلق الأمر بالشباب الأقل من 35 سنة. أحزاب سياسية مازالت ترشح للعمل التشريعي والسلطة المحلية الأمي وشبه الأمي في مجتمع أصبح السائد فيه بطالة المهندس والطبيب من الجنسين. كما يعين الوزير في الحكومة، من دون المرور على أي نشاط مهني أو سياسي قبل، لتكون عضوية الحكومة هي أول نشاط مهني وسياسي له.
أحزاب ومؤسسات تدير ظهرها لكبرى التحولات التي يعيشها المجتمع، منذ سنوات، على رأسها انتشار التعليم، والعالي تحديدا، الذي وسعت الدولة الوطنية الاستفادة منه بسرعة إلى الفئات الشعبية، بعد الاستقلال. هذا الغياب لدور النخب السياسية والمؤسسات المتحدثة باسمها، كالأحزاب السياسية هو الذي قد يفسر من جهة أخرى ما ميز الجزائر على الدوام: حدة الصراع الاجتماعي واستمراريته، من دون أن ينجز أي تغيير سياسي نوعي. وعدم فعالية الانتخابات كوسيلة تغيير سياسي، جربتها الجزائر بانتظام منذ الاستقلال، من دون أن تؤدي إلى تحسين أداء هذا النظام أو حصوله على شرعية أكبر في عيون المواطنين، لنصل إلى المحطة الأخيرة التي تميز الانتخابات الرئاسية الحالية بكل الشرور المتطايرة منها وحولها. بعد أن وصلت أزمة النظام السياسي إلى مستويات لم تصل إليها بمناسبة استحقاقات انتخابية سابقة. تكاد هذه المرة أن تطال مؤسسات الدولة لمركزية ذاتها، بكل تداعياتها السلبية المحتملة، لا قدر الله.
كاتب جزائري
Bravo
’’ و الذي قد يفسر من جهة أخرى ما ميز (الجزائر) على الدوام : حدة الصراع الاجتماعي واستمراريته، من دون أن ينجز أي تغيير سياسي نوعي. وعدم فعالية الانتخابات كوسيلة تغيير سياسي، جربتها الجزائر بانتظام منذ الاستقلال، من دون أن تؤدي إلى تحسين أداء هذا النظام أو حصوله على شرعية أكبر في عيون المواطنين‘‘
أرجوا شاكراً الإستزادة بالتوسُع في طرق هذه الجُزئية في مقالكم القادم.