حين تُثار قضية الرئاسات في الجزائر، تطفو إلى السطح الأسئلة والتحاليل والرؤى والأمنيات.. عوامل التغيير وفرص الإصلاح.. آمال النجاح وهواجس الفشل.. هل نحن أمام لحظة مفصلية؟ أم إزاء عبور عادي لنظام شاخ في الحكم، ولا يزال يرتب مستقبله ويتقن كيفية اجتياز المراحل والأزمات بسلام، والانحناء أمام عواصف ربيع الحرية، والالتفاف بعناية حول مطالب الناس وصنع معارضين من ضلع النظام ذاته، واللعب بالعقول عبر صناعة وهمْ الاصلاح والتغيير الكاذب والمخادع، وبخياطة الدساتير الآنية والشخصية، واستعمال النفط وعوائده لشراء الذمم وفبركة سلم اجتماعي مغشوش وتوزيع الريوع على الموالاة وفلول المعارضة المصنعة والمصطنعة بلا حسيب ولا رقيب . والسؤال هل نجاح الموعد الرئاسي مرهون بفوز شخصيات من خارج الدوائر المغلقة، أو مشاركتها في المنافسة، أو عودة تيار مقاطع وآخر مقصى إلى الحياة، أو ظهور ‘مغضوب عليهم’ على الشاشة الوطنية المنغلقة والمناضلة؟ وهل المعضلة تتمثل في بقاء الفريق الحاكم والحل في ذهابه؟ وهل القضية قضية نزاهة الموعد الرئاسي وتنوع المنافسين، أم الأمر أعقد وأعمق؟ مع الأسف بعض الأسئلة المطروحة ليست ضرورية ولا عميقة ولا ذات جدوى، بقاء الرئيس بوتفليقة وجماعته لعهدة رابعة أو ذهابه ليس بيت القصيد، ولا الجواب المفيد لحلحلة أزمة الحكم والشرعية في البلاد المستعصية والمتراكمة ككرة الثلج منذ فجر الاستقلال إلى اليوم. كلنا يعلم أن الخروج من المأزق الحالي لا علاقة له بشخص من يحكم بقدر صلته بنظام الحكم وبكيفية الحكم ..هنا مربط الفرس ومفتاح السؤال، لا خجل من أن تعترف النخبة الجزائرية الحاكمة بفشلها على مدار 50 سنة في التأسيس لإقامة ”دولة بيان أول نوفمبر’، دولة ديمقراطية اجتماعية ذات سيادة في ظل مبادئ الإسلام، دولة القانون والمؤسسات المنبثقة من إرادة الشعب.. دولة الشرعية الشعبية لا الشرعية الثورية.. دولة لا تزول بزوال الرجال، كما قالها هواري بومدين، رحمه الله، ولم تتحقق. دولة تنبثق مؤسساتها من الحاضر لا دولة تستند إلى شرعيات الماضي النضالي ضد المستعمر . نعلم أن المعارضة في الجزائر ضعيفة ومشتتة ومفصولة عن الشارع، ولا تستطيع أن تملأ قاعة قسم دراسي لإسماع صوتها وبرامجها البديلة، هذا ليس اكتشافا ولا سرا، هذا ما جنته براقش على نفسها.. وهذا من صنع النظام نفسه حين عمل بلا هوادة على دكدكة المناوئين الحقيقيين والرجال المخلصين والمُحرجين له، وعمد إلى صناعة دمى سياسية تترشح معه وتنافسه في صناعة الكذب والتضليل وديمقراطية الواجهة للاستهلاك الخارجي . لم يخف القادم الجديد ”سعيداني” السعيد جدا بمهمته في قيادة جبهة التحرير الوطني -”حزب النظام”- أوراقه ولا خلفيات ظفره بمنصب الأمين العام دون غيره من القيادات الأخرى.. لم يخف المهمة المكلف بها.. قال الرجل انه مكلف بأن يواصل ‘المهمة’.. طبعا المهمة النبيلة المناطة بجبهة التحرير على الدوام، المحافظة على النظام وديمومته وسعادته. الآن هناك قناعة عامة أن من يحكم اليوم في البلاد في واد والجماهير في واد آخر.. الشعب الجزائري كفر بالجميع سلطة ومعارضة.. لم يعد يثق في أي كان، ولو أنهم جميعا لبسوا لباس الملائكة وتوشحوا بوشاح الصدق لما صدقهم أحد، هذا صوت الشارع اليوم. هناك فجوة رهيبة بين الناس وبين الحكام والنخب السياسية التي تملأ المشهد، المواطن الجزائري اليوم ملّ من الوجوه القديمة والمستهلكة ويبحث عن كوادر جديدة تملأ كراسيها بالعمل، وتقوم بواجبها وتعطي المثل والقدوة الحسنة في المسؤولية والنيابة والرئاسة بنزاهة واستقامة، تلك هي أحلام الشباب اليوم التي غفلتها المعارضة وتجاهلتها السلطة وقفزت عليها .الكل اليوم يجني ويحصد ما زرع من شوك الفساد والاستبداد والهيمنة على الحكم. السلطة في عزلة قاتلة والمعارضة في ارتباك وتشتت.. والشارع الجزائري أصيب بخيبة أمل وانكر الجميع وأضحى يواجه مصيره بنفسه، ولم يعد يؤمن بالعمل السياسي مطلقا، بل يراه فرصة وسوقا رائجة للانتهازية والهروب إلى الامام وصناعة الثروة من الخزينة العمومية. وتحول السياسي في نظره إلى ذلك ‘الطماع’ والجشع وصاحب الثروة الذي يشتري كراسي البرلمان بالمال الفاسد ويمارس السياسة بهدف حماية ثروته والتهرب من الضرائب. وبعضهم يصرف ملايير خزينة الدولة من أجل الوجاهة في المجتمع والبروز الكاذب والجلوس في الصالونات المكيفة. أما مسألة الأخلاق السياسية والضمير الوطني والنخوة الجزائرية، فهي كحديث أصحاب الكهف غريبة ولا وجود لها في القاموس السياسي الوطني. إن المواطنين على حق حين لطموا الجميع وطلقوا العمل السياسي وهجروا صناديق الاقتراع، لأن الأمر أصبح لا يعنيهم في شيء وغير مجدِ في نظرهم، ولعبة السياسة في البلاد أضحت مرتعا للصوصية والخداع والكذب على ‘الغلابة’ وتحقيق المصالح الشخصية باسمهم، وأصبحت شبكات الرشوة السياسية أخطر من شبكات التهريب وشبكات المخدرات، وتحول السياسي في نظر المواطن إلى ذلك البارون مدبر المصالح و’مسلك الاوحال’ لأصحابه وعائلته ومحيطه، إلا ما ندر من الشرفاء النزهاء وهم قلة لا حول ولا قوة لها تكتفي بأضعف الإيمان وكلمتها مقموعة وغير مسموعة في وسائل إعلام الدولة . كل يوم نكتشف أن النخبة الحالية تسيء للوطن عوض أن تخدمه ولا تستحق اسمه ولا تاريخه ولا الانتساب إليه.. كل يوم نكتشف أن الوطن يُسرق والاجيال تُخدع وحلم الازدهار والتقدم والطموح في الريادة لا يزال بعيد المنال ما دامت هناك وجوه همها البروز ولو على جثة الوطن ومحنة الشعب. نأمل ان تكون فرصة الموعد الرئاسي القادم فرصة حقيقية لطرح الأسئلة المفيدة والجديرة ومحطة للجميع، خاصة الأجيال الجديدة، لإثراء النقاش حول حاضر البلاد ومستقبلها، ديمقراطيتها، نظام حكمها.. حريتها.. إعلامها.. دستورها وقوانينها.. أمنها.. جيشها وحدودها.. جوارها وعلاقاتها الخارجية، نزاهة مسؤوليها…اقتصادها.. ثرواتها.. شبابها.. منظومة تعليمها منظومة تأمينها وصحتها.. كرامة مواطنيها.. تاريخها وهويتها.. حاضرها ومستقبلها… نأمل ذلك .