الجزائر-“القدس العربي”:تستعد الجزائر لإجراء انتخابات رئاسية يوم الخميس المقبل تختلف عما سبقها من مواعيد انتخابية منذ الاستقلال شكلا ومضمونا وظرفًا. في وقت يواصل فيه الحراك الشعبي رفضه لهذه الانتخابات، وتتواصل معه المظاهرات الأسبوعية، ومقاطعة الحملات الانتخابية للمرشحين، الذين يجدون صعوبة، في حين يبقى الموقف غامضًا حتى كتابة هذه السطور، بشأن الرئيس المقبل للجزائر، خاصة في ظل الإشاعات والسيناريوهات المتضاربة والمتناقضة.
لم يعد يفصلنا عن سادس انتخابات رئاسية تعددية في الجزائر سوى بضعة أيام، فقد انقضت الجمعة الأخيرة قبل يوم الاقتراع بنفس السيناريو المتوقع، المظاهرات خرجت كالعادة في عدة مدن، وخاصة في العاصمة، والمشاركون فيها رفعوا الشعارات التي يرفعونها منذ أسابيع وأشهر، خاصة ما تعلق برفض الانتخابات الرئاسية في الظروف الحالية، وبالوجوه القديمة للنظام، سواء تلك التي تنظم الانتخابات أو التي تشارك فيها، وكذا المطالبة بإطلاق سراح سجناء الحراك، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، ومنح الكلمة وحرية الاختيار للشعب، في صورة مكررة عن الـ41 جمعة الماضية من المظاهرات.
في المقابل يواصل المرشحون الخمسة حملاتهم الانتخابية رغم الصعوبات والعراقيل التي يواجهونها في الميدان، خاصة في ظل الرفض الذي يستقبلون به في عدة مدن، في المقابل تمكن هؤلاء من القيام بحملاتهم الانتخابية والتنقل بين معظم مدن البلاد، رغم الفوارق بين أعداد الجماهير التي تشارك في مهرجاناتهم الانتخابية، لكن يبقى أن هؤلاء لم يجدوا أنفسهم أمام قاعات فارغة في معظم الأحيان، حتى وإن كانت أحيانا نصف ممتلئة، كما أنهم أيضا وجدوا أنفسهم أحيانا أمام قاعات مكتظة عن آخرها، وهو ما يعطي صورة أخرى عن واقع الأزمة الحالية، ويزيد في حالة الغموض بشأن موقف الشعب الجزائري يوم الانتخاب.
توقعات وسيناريوهات
قبل أن تنطلق الحملة الانتخابية، وعندما بدأت الأسماء المرشحة تكشف عن نفسها، كان الكثير من الجزائريين مقتنعين أن عبد المجيد تبون رئيس الوزراء الأسبق، هو مرشح النظام، وأنه يحظى بدعم المؤسسة العسكرية، رغم أن الجيش أكد مرارا على أنه سيظل على الحياد، وأنه لن يخوض الصراع على كرسي الرئاسة، ويبدو أن تبون نفسه حاول أن يلعب على هذه الإشاعة، وراح يروج لها، حسب ما ذكرته صحيفة “لوسوار” (خاصة) والتي قدمت رواية (لم يتم نفيها) بشأن استقالة عبد الله باعلي السفير السابق للجزائر بواشنطن ومدير حملة تبون، مؤكدا أن الأخير اجتمع إلى بعض الأشخاص، وأكد لهم أنه يحظى بدعم الجيش، وليحاول إقناع مستمعيه قال لهم إن باعلي حضر معه اجتماعا مع ضباط كبار في الجيش، الأمر الذي جعل مدير حملته يستشيط غضبا ويرمي المنشفة، مشددا على أنه يلتزم بما قاله قائد أركان الجيش بشأن حياد المؤسسة.
وتوالت الضربات التي تعرض لها تبون، بدءا بتوقيف رجل الأعمال عمر عليلات الذي كان محسوبا عليه، وهناك من وصفه بأنه الممول الرئيسي لحملته، وهو الأمر الذي نفاه تبون، مثلما نفى أي علاقة تربطه مع رجل الأعمال، ولكن اللافت أن مدير حملته الثاني استقال أيضا، كما أن الكثير ممن دعموه في وقت أول، شرعوا في سحب دعمهم له، وزادت متاعبه أكثر عندما مثل نجله خالد تبون أمام وكيل الجمهورية المساعد بمحكمة سيدي أمحمد في العاصمة، على خلفية اتهامه في قضية 701 كيلوغرام من الكوكايين لصاحبها كمال شيخي المعروف باسم “البوشي” والذي كشف توقيفه عن قضايا وتجاوزات أخرى في قطاع العقار، علما أنه صاحب مشاريع عقارية ضخمة وفخمة في العاصمة ومدن أخرى.
واستجوب وكيل الجمهورية أيضا كمال بوعرابة رئيس سابق لبلدية بن عكنون، وجلال الدين لمهل ابن والي سابق لمدينة غليزان، والمتهمين أيضا في قضايا مشاريع عقارية مملوكة لـ “البوشي” نسبة إلى مهنته الأصلية وهي جزار، بدليل أن شحنة الكوكايين ضبطت داخل شحنة لحوم مجمدة استوردها من البرازيل.
وعندما بدأ المحققون في فتح ملفات المتهم الرئيسي عثروا في مكتبه على مئات التسجيلات التي كان يحرص على أن تكون صوتا وصورة لكل من كان يدخل مكتبه، من مسؤولين مدنيين وعسكريين وأبنائهم، وكانت قضية البوشي السبب في إقالة عدد من كبار جنرالات المؤسسة العسكرية والذين أحيلوا على التحقيق والمحاكمة، لكن الأكيد في الأمر أن فتح هذه القضية المتشعبة التي يحقق فيها القضاء منذ سنة ونصف تقريبا يأتي في توقيت غير مناسب بالنسبة للمرشح عبد المجيد تبون، الذي قال أكثر من مرة إن ابنه موجود في السجن لأن نظام بوتفليقة قرر أن ينتقم منه، لكن هذا التفسير لم يقنع الكثيرين، لأن تبون لم يدخل في صراع مع نظام الرئيس السابق حتى بعد سحله إعلاميا ثم إقالته.
وفي الوقت الذي اعتقد بعض المراقبين أن تراجع ورقة تبون ستقوي ورقة علي بن فليس المرشح الآخر في هذه الانتخابات، الذي يرى أنصاره أنه الأنسب لهذه المرحلة، والأقدر على حل تعقيداتها وفك ألغازها ونزع ألغامها، وأنه عارض نظام بوتفليقة منذ البداية ودفع ثمن ذلك، لكن الغريب أنه في هذا التوقيت بالذات عادت ورقة المرشح عز الدين ميهوبي من بعيد، فميهوبي الذي دخل الانتخابات بحظوظ ضعيفة، لأنه كان وزيرا للثقافة في عهد بوتفليقة في أيامه الأخيرة، وتولى الأمانة العامة لحزب السلطة الثاني الذي كان يقوده أحمد أويحيى الموجود خلف القضبان في قضايا فساد، وهو الحزب الذي يمكن القول إنه الأقل شعبية في الجزائر، لكن فجأة تقوت حظوظ ميهوبي في الأيام القليلة الماضية، وما يشاع حول دعم حزب السلطة الأول جبهة التحرير الوطني لا يمكن إلا أن يوضع في خانة تعزيز حظوظه في الانتخابات المقبلة، وهناك مؤشرات وإشاعات تقول إنه سيكون الورقة الرابحة في الانتخابات المقبلة، وأن صغر سنه مقارنة بمرشحين آخرين، وعوامل أخرى قد تجعله رجل المرحلة المقبلة.
ورغم كل التوقعات والسيناريوهات التي يمكن رصدها والتوقف عندها، إلا أنه يصعب الجزم بأن الأمور استقرت بشكل نهائي لهذا المرشح أو ذاك، لأن كل شيء يظل ممكنا، والوضع يمكن أن يتغير بين ليلة وضحاها، بدليل ظهور مبادرة لدعم المرشح علي بن فليس، والتي تضم كوادر وأكاديميين ونواب سابقين وقيادات حزبية أغلبهم محسوب على حركة النهضة (تيار إسلامي) لذا فإن الأمر ما زال مبكرا، ونتيجة الانتخابات ستكون فعلا مفاجئة، بصرف النظر عن الفائز بها.
محاكمات ومفاجآت
وكانت محاكمة سيدي أمحمد في العاصمة قد شهدت انطلاق محاكمة كبار المسؤولين في عهد الرئيس السابق، بالإضافة إلى كبار رجال الأعمال، وفي مقدمتهم رئيسي الوزراء السابقين عبد المالك سلال وأحمد أويحيى، ووزراء سابقين مثل يوسف يوسفي ومحجوب بدة وزيري الصناعة السابقين، والوزيرة السابقة نورية زرهوني، بالإضافة إلى الوزير السابق عبد السلام بوشوارب الذي يحاكم غيابيا.
مئات المواطنين احتشدوا أمام مبنى المحكمة من أجل حضور محاكمة المتهمين في قضية فساد تتعلق بمصانع تجميع السيارات، والتي اتهم فيه عدد من كبار المسؤولين السابقين، ورجال أعمال، ولعل الشيء اللافت هو المبالغ الضخمة والخيالية التي ذكرت في المحاكمة، والتي بلغت أرقاما فلكية، وأعطت صورة واحدة عن حجم الفساد المستشري في عهد الرئيس السابق.
المحاكمة تأخرت في الانطلاق بسبب رغبة هيئة الدفاع في التأجيل مرة ثانية بعد أن تأجلت المرة الأولى، لكن القاضي أصر على المضي في المحاكمة، فلجأت هيئة الدفاع للانسحاب لكن القاضي أصر على النظر في القضية التي تتعلق بالمحاباة وتقديم امتيازات غير قانونية لرجال الأعمال أصحاب مصانع تجميع السيارات، والذين كانوا جميعهم يدورون في فلك السلطة الراحلة، وكان أحمد أويحيى رئيس الوزراء الأسبق، وهو السياسي الذي يمقته معظم الجزائريين، أول من وقف أمام القاضي للرد على أسئلته، وقد اعترف منذ البداية أنه أخفى امتلاكه لحساب بنكي في بنك عمومي، لكنه نفى أن تكون الأموال الموجودة داخله هي أموال الرشوة، كما عثر لديه في حسابات بنكية على مبلغ يقدر بحوالي 20 مليون دولار، وهي مبالغ لم يصرح بها، بالإضافة إلى تحويله مبلغ يقدر بـ40 ألف دولار إلى حساب زوجته.
ونفى أويحيى في رده على الأسئلة أن يكون قد منح صفقات مصانع تجميع السيارات إلى رجال أعمال على أساس المحاباة، مؤكدا على أن ما أشارت إليه التحقيقات من أن مصانع تجميع السيارات تسببت في خسائر مالية في حدود 1.1 مليار دولار هي كلفة الاستثمار في هذا القطاع، وأن كل شيء تم بطريقة قانونية، مشيرا إلى أنه لم يمنح أي مشاريع لشركة ابنه المتخصصة في الإعلام الآلي، كما نفى أن تكون زوجته تملك أي شركة.
أما عبد المالك سلال، فأكد أنه تولى مديرية الحملة الانتخابية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بتكليف منه ومن شقيقه (السعيد بوتفليقة) مؤكدا على أن الترخيص بإنشاء مصانع تجميع السيارات كان بغرض خلق الثروة بعد التراجع الرهيب في أسعار النفط، معتبرا أن التجاوزات يتحمل مسؤوليتها وزير الصناعة الأسبق عبد السلام بوشوارب، وأنه اشتكاه عدة مرات بسبب تلك التجاوزات، لكن لم تتخذ ضده أي إجراءات، ولما سأله القاضي عن كيفية حصوله على سيارة “رانج روفر” والتي قام ببيعها بعد ذلك أكد سلال أنه لا يتذكر.
ونفى وزير النقل والأشغال العامة السابق عبد الغاني زعلان أن يكون له أي دور في تمويل الحملة الانتخابية للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، مؤكدا أنه لم يتقاض أي سنتيم من أي رجل أعمال، بعد تعيينه على رأس حملة الرئيس الذي كان مترشحا لولاية خامسة خلفا لعبد المالك سلال الذي تمت إقالته، ولكن أمين المال في مديرية الحملة جاء وأبلغه أن رجال المال والأعمال توقفوا عن منح الدعم المالي لهم بعد يومين من اندلاع الحراك الشعبي.
وينتظر أن تتواصل المحاكمة بداية الأسبوع، وغالبا سيصدر الحكم فيها قبل موعد الانتخابات، ولعل التوقيت مهم، ولم يكن أبدا اعتباطيا، بل من شأنه توجيه رسالة إلى الحراك وإلى المشككين في عملية التطهير هذه، لأن الكثير من أنصار نظرية المؤامرة، لم يكونوا مصدقين أن كبار المسؤولين وكبار رجال الأعمال سيتم الزج بهم في السجن، وحتى لما تم ذلك ظهر من يقول إن الأمر يتعلق بمسرحية وأن هؤلاء سيفرج عنهم، لذا فإنه كلما كانت الأحكام ثقيلة كلما زادت ثقة الناس في المسار الحالي، مع العلم أن هذه القضية ما هي إلا بداية مسلسل محاكمات سيدوم أشهرا وربما سنوات.