اتخذ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قرارا بالغ الأهمية، تم بموجبه إرجاء تنفيذ الاتفاق الخاص بإلغاء الرسوم الجمركية مع أوروبا إلى وقت لاحق. واعتبر تبون أن الاتفاق، الذي أبرمته الحكومة السابقة مع الاتحاد الأوروبي، مُجحفٌ، وأمر بمراجعة كثير من بنوده. ويرمي الاتفاق إلى إقامة منطقة جزائرية أوروبية للتبادل الحر، اعتبارا من الأول من أيلول/سبتمبر الماضي.
غير أن السلطات الجزائرية أكدت أن قرار الإرجاء لا يعني التخلي عن اتفاق الشراكة مع الأوروبيين، وأنها ما زالت متمسكة به. بالمقابل أعلنت المفوضية الأوروبية من بروكسل أن الجزائريين امتنعوا عن إزالة آخر الرسوم الجمركية مع الاتحاد الأوروبي، قبل بدء الشهر الجاري، حسب روزنامة الاتفاق، ورأت في ذلك الإرجاء “إخلالا ببنود الاتفاق” مشيرة إلى أن أية مراجعة ينبغي أن تتم باتفاق الطرفين في اجتماع لـ”مجلس الشراكة الجزائري الأوروبي” الذي يضم ممثلين عن الطرفين.
والأرجح أن القرار الجزائري أتى استجابة لضغوط أوساط رجال المال والأعمال الجزائريين، الذين أبدوا مخاوفهم من تداعيات الاتفاق على الأوضاع الاقتصادية الصعبة، التي تمرُ بها المؤسسات الخاصة المحلية، والتي زادت عسرا مع انتشار وباء “كوفيد-19”. وفي السياق قال عبد الوهاب الزياني رئيس غرفة الصناعات الغذائية، إن إقامة منطقة للتبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي ستُعرض المصانع المحلية إلى منافسة شديدة، وخاصة في قطاع المنتوجات الغذائية والصناعات الدوائية. وأنحى الزياني باللائمة، في تصريحات لصحف محلية، على المفاوضين الجزائريين الذين قال إنهم لم يستشيروا رجال الصناعة المحليين.
ميزان تجاري مُختل
ويشكو الجزائريون من اختلال ميزان المبادلات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، وأكد علي باي ناصري رئيس “الجمعية الوطنية للمصدرين الجزائريين” أن الجزائر استوردت سلعا من الاتحاد الأوروبي، بقيمة 320 مليار دولار، بين 2005 و2019 فيما لم تتجاوز صادراتها إلى بلدان الاتحاد 15 مليار دولار في الفترة نفسها، خارج النفط والغاز ومشتقاتهما. وحسب ناصري، تمثل الجزائر أقل من 1 في المئة من الحجم الاجمالي للتجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي، بينما تصل حصة الأوروبيين من تجارة الجزائر الخارجية إلى أكثر من 55 في المئة. ومن هنا فإن أي اضطراب أو صدمة اقتصادية في أوروبا تنعكس سلبا، وفي وقت سريع، في الاقتصاد الجزائري. وفي دراسة أعدها الخبير مختار خلادي توقع أن تكون الجزائر في قلب العاصفة، إذا ما هب إعصار اقتصادي على المنطقة “لأن دور المفاوضين الجزائريين كان شكليا ولم تحصل مفاوضات حقيقية بين شريكين متعادلين” على ما قال.
لكن الحكومة الجزائرية قررت العام الماضي خفض الواردات من الخارج، من ضمن إجراءات تقشفية أخرى، ما أدى إلى تراجع الاعتماد على المنتوجات الأوروبية نسبيا. وحظر الجزائريون، في هذا الإطار استيراد 800 سلعة، تراوح من الهواتف المحمولة إلى الآلات المنزلية، مرورا بالمنتوجات الزراعية. كما تراجع استيراد بعض المواد الاستهلاكية بعد رفع الضرائب على الاستهلاك إلى 30 في المئة، بينما زادت الضرائب الجمركية على السلع 60 في المئة. ولاقت تلك الإجراءات التقشفية تجاوبا واستحسانا لدى الصناعيين الجزائريين، لأنها حركت الأسواق المحلية الراكدة.
ولم يُخف الصناعيون الجزائريون خشيتهم من احتمال لجوء الاتحاد الأوروبي إلى المعاملة بالمثل، ما سيزيد من أسعار المواد المستوردة، التي يحتاجونها في إنتاج سلعهم، ما يُهدد بتوقف بعض المصانع عن الإنتاج، جراء خُلو بعض الأسواق من المواد الأولية. وكان لافتا أن شريكين تجاريين مهمين للجزائر، وهما تركيا وإسبانيا، انتقدتا علنا الإجراءات التي اتخذتها السلطات الجزائرية لإقرار ضرائب على المنتوجات المستوردة من هذين البلدين.
ويعيب الجزائريون على الأوروبيين عدم تنفيذ وعودهم بتكثيف استثماراتهم في بلدهم، في أعقاب التصديق على اتفاق الشراكة، واعتبروا أن الاتحاد يتعاطى معهم بوصف الجزائر سوقا مهمة لهم، وليس أكثر من ذلك. وكتبت صحيفة “الوطن” الجزائرية أن بلدان الضفة الشمالية للبحر المتوسط هي التي قطفت ثمار اتفاق الشراكة، لأنه فتح أمام منتوجاتها أبواب سوق كبيرة.
غير أن الأوروبيين يردون بأن الجزائر ليست أصلا منطقة جاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، ويستدلون على ذلك بأنها تتبوأ الرتبة 30 بين لائحة البلدان الأفريقية الخمسين، الجاذبة للاستثمار الأجنبي في القارة الأفريقية. أكثر من ذلك يؤكد المستثمرون الأوروبيون أن البيرقراطية طاردة للاستثمار، وأنها تعتمد على قوانين مجحفة ومتغيرة دوما، وهو انطباع يشاطره كثير من رجال الأعمال والمستثمرين المحليين.
تجاذبات تُخفي رهانات استراتيجية
في خلفية هذه التجاذبات بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، توجد رهانات استراتيجية تتعلق بالتوغل الصيني في السوق الجزائرية، وهو يُثير مخاوف عميقة لدى الأوروبيين، إذ تبوأت الصين للعام الخامس على التوالي، المرتبة الأولى بين شركاء الجزائر التجاريين، متقدمة على جميع البلدان الأوروبية، بما فيها فرنسا، التي كانت الزبون التجاري الأول والمزود الأكبر للجزائر. وبالرغم من الحوافز الكثيرة التي منحتها الجزائر لأعضاء الاتحاد الأوروبي في المجال التجاري، بموجب اتفاق الشراكة، ما انفكت حصة الأوروبيين من السوق المحلية تتراجع طيلة السنوات الأخيرة، فيما المنتوجات الصينية تتقدم، حتى استأثرت بالمركز الأول. وبحسب إحصاءات جديدة تتعلق بالأشهر الأولى من العام الجاري ما زالت الصين تتبوأ المركز الأول بين شركاء الجزائر التجاريين، إذ تُؤمن 15 في المئة من الواردات، تليها فرنسا وإيطاليا واسبانيا.
وكانت أوروبا تتطلع منذ 2005 إلى استكمال خطوات إقامة منطقة للتبادل الحر مع الجزائر في نهاية هذه السنة، بعد التدرج عبر مراحل متفقا عليها من الطرفين. وكانت تعتقد أن الفترة الانتقالية التي مُنحت للجزائر، من أجل الإلغاء التدريجي للرسوم الجمركية، كافية لتحقيق ذلك الهدف. ويعتقد الأوروبيون أن حصاد تلك الفترة الانتقالية أظهر عدم جاهزية المؤسسات الصناعية الجزائرية لذلك الاستحقاق.
واتهمت مفوضة التجارة في الاتحاد الأوروبي سيسيليا مالمستروم، الجزائر بأنها لم تلتزم بالاتفاقات الموقعة مع الاتحاد، وخاصة اتفاق الشراكة. وخاطبت النواب الأوروبيين قائلة: إن الجزائر لم تكتف بالإخلال باتفاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وحسب، وإنما هي تُحابي الصين أيضا، من دون أن توضح مالمستروم بدقة المآخذ التي تُنسب للجزائر. ومنذ ذلك التصريح، خرج الخلاف بين الجانبين من الغرف المقفلة إلى العلن.
الاتجاه إلى الغاز الصخري
بالنظر لشح الاستثمارات الخارجية المباشرة، لجأ الجزائريون أخيرا إلى الاستثمار في تطوير الغاز الصخري، بالرغم من المعارضة التي يلقاها في أوساط مختلفة. وبحسب تقديرات رئيس مؤسسة النفط الجزائرية عبد المؤمن ولد قدور سيؤمن إنتاج الغاز الصخري إيرادات قيمتها 67 مليار دولار في أفق 2030 نصفها سيُعاد استثماره على ما قال. وأكد ولد قدور أن “سوناتراك” ستشجع التفتيش والاستكشاف حتى يصلا إلى 100 مليون طن مكافئ نفط في السنة. وعبرت “سوناتراك” عن عزمها على التعاون مع مجموعة “أكسن موبيل” الأمريكية، التي رأت أنها تمتلك تقنيات التفتيش عن الغاز الصخري. وحاولت شبكة الزوايا الصوفية في منطقة عين صالح، جنوب الجزائر، الاعتراض على اللجوء إلى الغاز الصخري لما راج عن مضاره البيئية، غير أن رئيس مجموعة “سوناتراك” زار ثلاثة من مراكز الصوفية في المنطقة، لتهدئة مخاوفهم.
وسعت الجزائر إلى تطوير قانون الاستثمار في قطاع المحروقات المحلي، من أجل استقطاب مستثمرين خارجيين. وأكد وزير الطاقة والمناجم عبد المجيد عطار أن القانون الجديد يتضمن حوافز وتسهيلات بغية تشجيع المستثمرين الأجانب على العودة إلى الجزائر.
وركز الجزائريون أخيرا على تطوير الاستثمار في القطاع المنجمي، بالنظر لما لديهم من احتياطات كبيرة من الفوسفات، وإمكانات استغلالها في تنمية الصناعات الكيميائية، بالتعاون مع مجموعات دولية متخصصة في هذا الميدان. وتُصنف الجزائر بين أكبر البلدان ذات الثروات المنجمية، إلى جانب أستراليا وروسيا والصين وأفريقيا الجنوبية والبرازيل. ويقول مسؤولون جزائريون إن تطوير إنتاج الأسمدة الآزوتية والفوسفاتية سيمكن من إنعاش القطاع الزراعي، واستطرادا ضمان الأمن الغذائي للبلد.
ويرى محللون اقتصاديون أن الجزائر باتت تنظر أكثر إلى جنوبها، وتخطط للدخول بقوة إلى الأسواق الأفريقية، بانتظار فض الخلافات العالقة مع الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار يؤكد الجزائريون أن الاتجاه نحو أفريقيا لن يترتب عليه التخلي عن العلاقات التقليدية مع الاتحاد الأوروبي، أو حتى التهوين من قيمتها.
وستنضم الجزائر مطلع العام المقبل إلى منطقة التبادل الحر الأفريقية، التي أنشئت في العام 2018 والتي تضم 53 بلدا يُقدر عدد سكانها بـ1.2 مليار. ويتوقع وزير التجارة الجزائري كمال رزيق أن تحصد بلاده 3000 مليار دولار من الايرادات. وباشرت الشاحنات الجزائرية نقل المنتوجات الصناعية إلى أسواق الدول المجاورة، وهي مالي والنيجر وموريتانيا.
وتسعى الجزائر إلى الحلول في المرتبة الأولى بين شركاء موريتانيا التجاريين، كما تعمل على إقامة مناطق تجارة حرة في محافظات عدة من جنوبها. وتوجد مشاريع قيد التنفيذ في هذا الإطار، خاصة في تندوف وأدرار وإيليزي وتمنراست، وهي من أبرز الأقطاب الحضرية في الجنوب، لكي تكون جسورا اقتصادية مع أفريقيا جنوب الصحراء.
نهاية الاقتصاد الريعي
ووضع وزير الطاقة الجديد عبد المجيد عطار، في مقدم أولوياته التخلص من الاقتصاد الريعي، في إشارة إلى اعتماد الجزائر على مداخيل النفط والغاز في اقتصادها. وأوضح أن على الجزائريين أن ينسوا الريع ويبحثوا عن مداخيل جديدة خارج الطاقة، مؤكدا أن “الجزائر في مأمن طاقوي حاليا وإلى غاية سنة 2040 لكن العالم يتغير طاقويا، ما يستلزم البحث عن مداخيل جديدة من خارج قطاع المحروقات” على ما قال.
والجدير بالملاحظة أن الاتحاد الأوروبي قرر إطلاق مفاوضات ثنائية جديدة مع أربعة بلدان عربية، ليست بينها الجزائر، بُغية إنشاء منطقة للتبادل الحر معها. ووافق أعضاء الاتحاد بالاجماع في 2011 على منح إجازة للمفوضية الأوروبية لمباشرة مفاوضات مع كل من المغرب وتونس والأردن ومصر. ويدل اقتصار مسار المفاوضات على هذه البلدان، على أن الجزائر تشكل حالة منفردة، وأن علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي مرشحة لتغييرات لا يمكن التكهن بمآلاتها.